هناك شبه إجماع لدى علماء الصوتيات العرب أن نطق حرفي الطاء والقاف اليوم مختلف عن النطق الذي وصفه القدامى، ولكن الأمر فيه إشكالات كثيرة ولذلك لا أعتمد النطق الذي يذكرونه في قراءتي للقرآن. ولكي تفهم حيثيات القضية دعني أشرح لك أولاً عدة مسائل متعلقة في كيفية نشوء الأصوات.
الجهر
والهمس
عندي لك تجربة صغيرة.
غطِّ على أذنيك بيديك ثم انطق حرف السين بشكل متصل هكذا: سسسسسسسسسس. ثم انطق
بعدها حرف الزاي بشكل متصل هكذا: ززززززززززز.
ستلاحظ أنك حين نطقت
بالزاي ستلاحظ أن طنينا قد ملأ رأسك، في حين أن هذا الطنين لم يحصل حين نطقت
بالسين.
إن هذا الطنين هو
ناتج عن اهتزاز الوترين الصوتيين في الحنجرة، وإذا أردت أن تشعر بهذا الاهتزاز
بشكل محسوس فضع إصبعك على حنجرتك وقل "سسسسسسسسس" ثم قل
"ززززززززز" وستشعر مع الزاي بأن هناك اهتزازا في حنجرتك. هذا الاهتزاز
هو ما يصنع الفارق بين عدد من الأحرف؛ فحرفا السين والزاي يتم إصدارهما من نفس
الموضع من الفم وبنفس وضعية اللسان وحركته، ولكن في حرف السين فإن الوترين
الصوتيين لا يهتزان، أما مع الزاي فإن الوترين يهتزان. إذا ما يصنع الفارق بين
السين والزاي هو فقط اهتزاز الأوتار الصوتية أو عدم اهتزازها.
وهكذا الحال مع أحرف
أخرى لا يصنع الفارق بينها سوى الاهتزاز؛ فحرفا التاء والدال لا يختلفان في
آلية النطق سوى في الاهتزاز فحرف التاء لا تهتز معه الأوتار أما حرف الدال فتهتز
معه الأوتار، وحرفا الكاف والجيم المصرية يخرجان بنفس الطريقة ولكن الكاف لا تهتز
معها الأوتار أما الجيم المصرية فتهتز معها الأوتار.
إليك الأزواج التالية
من الأحرف حيث أن كل حرفين من الأزواج التالية ينطقان بنفس الطريقة ولكن الحرف
الأول لا تهتز معه الأوتار أما الثاني تهتز معه الأوتار:
ح، ع
خ، غ
ك، جاف (جيم مصرية)
ش، ج (جيم شامية)
ت، د
ط، ض (دال مفخمة)
ص، زاي مفخمة (كما في
نطق المصريين والشوام للظاء في كلمة "موظف")
س، ز
ث، ذ
p ، ب
ف، v
لقد تحدث سيبويه عن
صفتين من صفات الأحرف وهما الجهر والهمس، وقد فسر علماء الصوتيات العرب المقصود
بالأحرف المجهورة بأنها هي التي يحدث فيها اهتزاز الأوتار، أما الأحرف المهموسة
فهي التي لا يحدث فيها اهتزاز للأوتار.
المشكلة التي نقع
فيها هنا هي أن سيبويه والقدامى من بعده وصفوا الطاء والقاف بأنهما مجهورتان، ولكن
في نطقنا الحالي فإن الطاء والقاف مهموستان حيث لا تهتز معهما الأوتار الصوتية.
المشكلة الثانية هي
أن موقع القاف في الفم كما سجله القدماء مختلف عن موقع القاف الحديثة.
سيبويه في ترتيبه لمخارج الحروف يجعل
مخرج الغين والخاء أعمق من مخرج القاف، حيث رتب سيبويه المخارج مبتدئاً من أسفل الحلق
ومنتهيا بالشفتين؛ يقول سيبويه:
((ولحروف العربية ستة عشر مخرجا.
فللحلق
منها ثلاثةٌ. فأقصاها مخرجاً: الهمزة والهاء والألف. ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء.
وأدناها مخرجاً من الفم: الغين والخاء.
ومن
أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف.
ومن
أسفل من موضع القاف من اللسان قليلاً ومما يليه من الحنك الأعلى مخرج الكاف.))
ولكن وفقاً لنطقنا المعاصر لأحرف القاف والغين والخاء، فإن القاف لدى أكثر علماء الصوتيات العرب مخرجها أعمق من مخرج الغين والخاء، ولكن غانم قدوري يخالفهم في هذا ويرى أن مخرج الغين والخاء أعمق من القاف، فإذا كان هذا الرأي صحيحاً يزول التعارض في ترتيب المخارج بين ترتيب القدماء وترتيب المخارج كما ينطقها قراء القرآن اليوم.
هذا عن النطق الأصلي
للقاف، فماذا عن النطق الأصلي للطاء؟ إن الطاء وفق القدماء هي حرف مجهور أي تهتز
معه الأوتار الصوتية، في حين أن الطاء التي ننطقها اليوم لا تهتز معها لأوتار الصوتية.
إذا لنحصل على النطق الأصلي للطاء علينا أن ننطق الطاء باهتزاز الأوتار، والطاء
الحديثة باهتزاز الأوتار تصبح دالا مفخمة، أي صوت الضاد الذي يُقرأ به القرآن
اليوم!
ومما يؤكد أن الطاء
كانت دالا مفخمة قول سيبويه: ((ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا، والصاد سيناً، والظاء ذالاً))
(الكتاب لسيبويه ج4 ص436 الشاملة)
والإطباق هو الذي يحوّل
السين إلى صاد والذال إلى ظاء والتاء إلى الطاء الحديثة؛ فلو كان سيبويه ينطق
بالطاء كما ننطقها اليوم لقال: ولولا الإطباق لصارت الطاء تاءً. ولكنه قال بأن
الطاء دون إطباق تصبح دالا، وهذا معناه أن صوت الطاء لديه هو الدال المطبقة وهو
صوت الضاد التي يُقرأ بها القرآن اليوم.
يقول غانم قدوري: ((ويشبه
صوت الطاء عند سيبويه صوت الضاد التي يؤخذ بها في قراءة القرآن في زماننا، وتجري
على ألسنة أكثر أهل مصر والشام.)) (المدخل ص277)
إذا تبدو الأمور
واضحة: الطاء كانت تُنطق دالا مفخمة، والقاف كانت تُنطق باهتزاز الأوتار ومن موضع
قريب من الكاف.
هل الأمر محسوم إذا؟
لا!
حين اطلعت على مسألة
الطاء والقاف اقتنعت بأن الطاء والقاف كانتا تُنطقان باهتزاز الأوتار الصوتية، ولكني
مع ذلك كنت أتساءل عن قضية لم أجد علماء الصوتيات العرب قد تحدثوا فيها وهي: إذا
كانت الطاء تُنطق دالاً مفخمة، وإذا كانت القاف مجهورة أي إما شبيهة بالجيم
القاهرية أو شبيهة بالغين، فلماذا نجد إذا أن حرفي الطاء والقاف دائما ما يتحولان
إلى تاء وكاف في الكلمات العربية التي دخلت إلى لغات أخرى؟ بدلا من أن تتحولا إلى دال
و G؟
ففي اللغة التركية في
معظم الحالات تتحول القاف إلى k والطاء
إلى T
، انظر للكلمات التركية التالية:
akraba أقرباء
Akrep عقرب
Akil عقل
Basit بسيط
بطانية battaniye
وهذه قائمة بالكلمات
العربية في اللغة التركية:
وفي الكلمات العربية
التي دخلت اللغة الهندية – الأوردية فإن الطاء تُنطق تاءً والقاف تُنطق كافاً؛
فمثلا كلمة "باقي" يقولونها "باكي"، وكلمة "مضبوط"
يقولونها "مزبوت".
ونفس الحالة نجدها في
اللغة الإسبانية:
القطيفة
alcatifa
الخيط
Alhaite
ومن
أسماء المدن الإسبانية:
القنطرة
Alcántara
البسيط
Albacete
جزيرة طريف، مشتقة من
اسم القائد الأمازيغي طريف بن مالك
Tarifa
اللغة الوحيدة التي
وجدتها تمثل القاف مجهورة هي اللغة الفارسية حيث تتحول القاف إما إلى غين أو جيم
مصرية، ولكن الطاء في الفارسية تتحول إلى تاء.
https://en.wikipedia.org/wiki/Persian_alphabet
ثم جاءت المفاجأة حين
اطلعت على أبحاث حديثة لأحمد الجلاد، وهو بروفوسور في لغات الشرق الأدنى ومتخصص في
تاريخ اللغة العربية القديمة، ويعمل على الأرض في مشروع للتنقيب عن النقوش والآثار
في الأردن والسعودية.
لقد نشر الجلاد بحثين
مهمين يتعلقان بالنقوش والبرديات القديمة والتي تحوي كلمات عربية كُتبت بالأحرف
اليونانية، ومصدر هذه النقوش والبرديات يعود لفلسطين والأردن وجنوب سوريا. البحث
الأول يغطي النقوش والبرديات المتعلقة باللغة العربية القديمة التي تعود لفترة ما
قبل الإسلام، أما الثاني فيغطي برديات من فترة الفتوحات.
فيما يتعلق باللغة
العربية القديمة فإن الكلمات العربية التي كُتبت بالأبجدية اليونانية تبين أن حرف
الطاء يُكتب بحرف t
وحرف القاف يُكتب
بحرف k
لذلك أكد المؤلف كما
ترى في الصورة السابقة أكد أن هذا معناه أن الطاء كانت صوتا مهموسا voiceless
أما القاف فكُتبت باليونانية بالكاف، وعرض الجلاد ست كلمات كأمثلة مؤكداً أن حرف القاف كان صوتاً مهموسا.
المصدر:
أما بحثه الثاني والمبني
على برديات تعود إلى فترة الفتوحات الإسلامية، فلا يوجد فيه حديث عن الطاء، ولكن
فيه حديث عن القاف فقال المؤلف بأنه لا يوجد ما يدل على أن القاف كان مجهورة، بل
الأمور تؤشر إلى أنها كانت مهموسة. وعرض ثلاث كلمات عربية مكتوبة باليونانية وقد
كُتب حرف القاف فيها بالـ k وهذه الكلمات هي: القاسم، قيس، العراق.
المصدر:
إذاً، إذا كان تحول
الطاء والقاف إلى تاء وكاف في اللغات التي استعارت من العربية إذا كان هذا التحول
قد أثار في النفس الشكوك حول قول علماء الصوتيات بأن الطاء والقاف كانتا مجهورتين،
فإن هذه الكلمات العربية المكتوبة باليونانية تدفعنا دفعا إلى الاعتقاد بأن القاف
والطاء كانتا في الحقيقة مهموستين، وأن سيبويه ومن جاء بعده إما أنهم قد أخطأوا في
اعتبار القاف والطاء مجهورتين، أو أننا نحن أخطأنا في فهمنا لمقصودهم بالجهر
والهمس. والذي عليه أحمد الجلاد وغيره من الباحثين المعاصرين هو أننا أخطأنا في
فهم الجهر والهمس الذي تحدث عنه القدماء.
وإليك بيان الأمر:
هناك صفة من صفات
الأصوات لا يتحدث عنها علماء الصوتيات العرب لظنهم بأنها لا تؤثر في أصوات
العربية، هذه الصفة تُسمى بالـAspiration
ومعناها أن يُنطق
الحرف مع خروج دفعة قوية للنفس، في حين أن هناك أحرفا تُنطق من دون دفعة النفس
القوية هذه.
https://en.wikipedia.org/wiki/Aspirated_consonant
تجربة: ضع يدك أمام
فمك، ثم قل: دا، وبعدها قل: تا.
ستلاحظ مع
"تا" بأن الهواء الذي خرج من فمك كان أقوى من الهواء الذي خرج مع
"دا". السبب في ذلك هو أن التاء من الأحرف النَفَسية فيحصل مع نطقها
دفعة قوية من النفس، أما الدال فلا يحصل معها هذا الأمر لذلك تسمى الأحرف الذي لا
يندفع معها النفس بالأحرف غير النَفَسية Unaspirated consonants
وفي بعض اللغات فإن خروج
النَفَس فيها من عدمه يغير الحرف ويغير المعنى، كاللغة الهندية واللغات الشرق
آسيوية – الصينية الكورية اليابانية..ألخ -؛ ففي اللغة الأوردية تُكتب الهاء
بطريقتين إحداها هي بهذا الشكل "هـ" وهي مخصصة لتعني خروج النفس وليس
خروج صوت الهاء؛ فحين تأتي هذه الهاء بعد الكاف مثلا فهذا معناه أن الكاف في هذه
الكلمة تُنطق مع خروج قوي للنفس، وحين تكتب الكاف بدون هذه الهاء فهذا معناه أن
الكاف في هذه الكلمة تُنطق بدون خروج قوي للنفس. وهذا أمر يمكن لهم أن يتحكموا
فيه، أما من لغته لا تفرق بين خروج النفس من عدمه كالحال مع العربي فإنه يصعب عليه
أن يتحكم بهذا الأمر فلا يستطيع أن ينطق الكاف بدون خروج قوي للنفس ولا يستطيع أن
ينطق الدال مع خروج قوي للنفس، بينما الهندي أو الصيني يستطيع أن يتحكم بهذا الأمر
بالسليقة.
على ضوء ما سبق، لننظر
إلى التعريف الذي يقدمه القدماء للجهر والهمس. يقول سيبويه:
((فالمجهورة: حرفٌ أشبع الاعتماد في موضعه،
ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت. وأما المهموس فحرفٌ أضعف
الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه. )) (الكتاب لسيبويه ج4 ص434 الشاملة)
وكما
ترى فإن هذا التعريف متركز على جريان النفس من عدمه، وهذا ما أعطى الأساس لعدد من الباحثين للقول بأن ما قصده القدماء
بالحرف المجهور هو الحرف غير النَفَسي، أما الحرف المهموس فهو الحرف النَفَسي.
يقول الملخص المنشور
لبحث مشترك لباري هيسيلوود وريم مغربي ما يلي:
((بيانات القياسيات
الهوائية لثلاثة متحدثين تظهر أن سرعة النفس الخارج عند نطق الأحرف المجهورة
الشديدة هو أقل بكثير من نطق الأحرف المهموسة، وأن التحليل عبر أجهزة قياس صوتية
لنطق ثمانية أشخاص يثبت أن النفس المصاحب للقاف والطاء هو منخفض بفعل التحكم
بالحنجرة.))
Haselwood & Maghrabi
Haselwood & Maghrabi
معنى ما سبق هو: أن
الأحرف الشديدة المجهورة هي أحرف غير نَفَسية unaspirated أي لا تخرج معها دفعة هواء قوية، أما
الأحرف الشديدة المهموسة فتخرج معها دفعة الهواء القوية. وأثبتت القياسيات أن
الطاء والقاف رغم أنهما يُنطقان دون اهتزاز الأوتار الصوتية فإنه لا تخرج معهما
دفعة هواء قوية، وبذلك حين نفسر المقصود بالجهر بأنه الحرف غير النَفَسي unaspirated فإن تصنيف
سيبويه والقدماء لحرفي الطاء والقاف ضمن الأحرف المجهورة يصبح معروف السبب. إذ أن
جميع الأحرف الشديدة في العربية والتي تُنطق دون اهتزاز للوترين الصوتيين هي أحرف
يخرج النفس معها مندفعا بقوة، باستثناء حرفي الطاء والقاف فهما حرفان شديدان
ويُنطقان دون اهتزاز الوترين ومع ذلك لا يخرج النفس معهما مندفعا بقوة.
ولكن هذا التعريف
ينطبق فقط على الأحرف الشديدة، فماذا عن الأحرف الرخوة؟ فجميع الأحرف الرخوة هي
غير نَفَسية unaspirated
فما الذي اعتبره سيبويه
صانعاً للفرق بين السين والزاي طالما أن كليهما لا يندفع معهما النفس بقوة؟ في
الحقيقة هناك صفة هوائية تنطبق على الأحرف الشديدة غير النَفَسية وتنطبق أيضاً على
الأحرف الرخوة التي لا يهتز معها الوتران الصوتيان، وهذا ما يمكّن الباحثين من
استخدام هذه الصفة الهوائية لاعتبارها صفة الهمس التي أرادها سيبويه.
فإلى جانب البحث
السابق ذكره، هناك بحث آخر لهيسيلوود وواتسون بعنوان:
Phonation and glottal states in Modern South Arabian and San’ani Arabic
ويتحدث هذا البحث في
ذات الشأن، ولكن كلا البحثين غير متوفرين للأسف لذلك اعتمدت على ملخصي البحثين
وعلى اقتباسات من البحثين وردت في أبحاث
لآخرين، لذلك لا أستطيع أن أستفيض في شرح نظريتهم لأن الصورة عندي أساسا غير مكتملة
نظرا لعدم قراءتي لأبحاثهم.
لقد وضع هؤلاء
الباحثون تعريفاً محددا للجهر والهمس الذين أرادهما سيبويه، وميزة تعريفهم للجهر
أنه ينطبق على الطاء والقاف والهمزة كما ننطقهم اليوم رغم أن هذه الأحرف لا تهتز
معها الأوتار الصوتية، وقد وصف سيبويه هذه الأحرف الثلاثة بالجهر.
وفقا لهؤلاء الباحثين
فإن تعريف الهمس هو: تدفق هوائي غير منتظم، وهذه صفة تنطبق على الأحرف الشديدة
النَفَسية aspirated stops وعلى الأحرف الرخوة التي لا يهتز فيها الوتران voiceless fricative.
أما تعريف الجهر فهو
غياب التدفق الهوائي غير المنتظم.
مصدر التعريف:
Inferring the Phonetics of Quranic Arabic from the Quranic Consonantal Text, Marijn van Putten, p.8
Inferring the Phonetics of Quranic Arabic from the Quranic Consonantal Text, Marijn van Putten, p.8
وهذا التعريف للجهر
تنطبق عليه جميع الأحرف المجهورة التي ذكرها سيبويه سواء كانت شديدة كالدال والقاف
والطاء والهمزة أو رخوة كالزاي والظاء. وينطبق أيضاً تعريفهم للهمس على جميع
الأحرف المهموسة وفق تصنيف سيبويه.
ولكن إذا كانت الطاء
التي قصدها سيبويه هي ذات الطاء التي نتحدث بها اليوم، فماذا قصد سيبويه بقوله:
((ولولا الإطباق لصارت الطاء دالا))؟
ركز في هذا الأمر:
الطاء حرف مطبق وغير نَفَسي unaspirated، سيبويه يتحدث عن إزالة الإطباق ولكنه لا يتحدث عن
إزالة الهمس أي إزالة التدفق الهوائي غير المنتظم – وفي حالة الطاء يترافق هذا
التدفق الهوائي مع ظاهرة الاندفاع القوي للنفس aspiration -، فما ستحصل عليه حين تزيل الإطباق
فقط عن الطاء هو تاء لا يجري معها النفس! وهي بذلك تكون مختلفة عن التاء الطبيعية
التي يجري معها النفس. وبما أن الدال لا يجري معها النفس، وبما أن سيبويه اعتبر ما
يفرق بين الدال والتاء هو جريان النفس من عدمه، فإنه قد اعتبر التاء التي لا يجري
معها النفس اعتبرها دالا!.
الدال: تخرج بلا نفس.
التاء: تخرج بنفس.
الطاء: تخرج بلا نفس.
إزالة الإطباق عن
الطاء ستؤدي للحصول على تاء تخرج بلا نفس وهي تاء غير طبيعية حيث أن ما يخرج بدون
نفس من ذات المخرج وبذات وضعية اللسان هو الدال، لذلك اعتبر سيبويه هذه التاء
دالا.
الآن قد تظن بأن
الإشكال قد انتهى وبأننا قد فهمنا أخيرا مقصد القدماء من وصف القاف والطاء بالجهر.
ولكن لا!
حيث يؤكد غانم قدوري
أن ما قصده سيبويه بالجهر هو بالفعل اهتزاز الأوتار الصوتية، فيقول كدليل على ذلك:
((ورد في كلام سيبويه على الوقف إشارة إلى تقسيم الأصوات إلى مُشْرَبة، أُشربت صوت
الصدر، وإلى مهموسة يخرج صوتها من الفم مع النفس لا صوت الصدر. ونقل السيرافي في
شرحه الكتاب ما يوضح ذلك، فذكر أن الأخفش قال: "سألت سيبويه عن الفصل بين
المهموس والمجهور، قال سيبويه: وإنما فرَّق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى
تبيين المجهور إلا أن تدخله الصوت الذي يخرج من الصدر، فالمجهورة كلها هكذا يخرج
صوتهن من الصدر ويجري في الحلق، وأما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها، وذلك مما
يزجي الصوت، ولم يعتمد عليه فيها كاعتمادهم في المجهورة، فأُخرج الصوت من الفم
ضعيفاً". والراجح أن صوت الصدر هو صوت الجهر المنبعث من الوترين الصوتيين.))
المدخل ص103
فهل نظرية أن المقصود
بالجهر هو غياب التدفق الهوائي غير المنتظم، هل هذه النظرية بإمكانها أن تفسر
مقصود سيبويه بالصوت الذي يخرج من الصدر؟. البحثان المخصصان لهذه النظرية غير
متوفرين للقراءة لذلك لا أقدر أن أجيب على هذا السؤال.
الخلاصة هي أن الصفات التي ذكرها سيبويه ومن جاء بعده هي قوية في
إثبات أن الطاء كانت دالا مفخمة وأن القاف كانت مجهورة، ولكن تحول
الطاء والقاف إلى تاء وكاف في اللغات التي استعارت من العربية، وظهور ذات التحول في الكلمات العربية
التي كُتبت باليونانية قبل الإسلام وأثناء فترة فتوحات الشام، فإن كل هذا يؤكد بلا لا يدع مجالاً للشك بأن القاف والطاء لم تُنطقا باهتزاز الأوتار الصوتية.
No comments:
Post a Comment