Sunday, September 6, 2020

الحجازية القديمة

الحجازية القديمة

خصائصها والأدلة عليها

 

بينت في مقالتي السابقة أن الهمز الموجود في القراءات القرآنية هو دخيل على لغة القرآن ومأخوذ من لهجات عربية أخرى تهمز وهي لهجات وسط الجزيرة وشرقها، وبيّنت أن أئمة القراءات أدخلوا الهمز على القرآن دون أن يكونوا قد تلقوا ذلك عن النبي. في هذه المقالة سيتبين لك أن الهمز وكسر هاء الغائب ليستا الخاصيتين الوحيدتين اللتين تم أخذهما من لهجات البدو بل تم أيضاً أخذ الحركات الإعرابية والتنوين. وقد كنت أتعجب من الدراسات التي تقول أن القرآن لم يحتو على نظام إعرابي كامل لأنها تشكك بأمر مسلم به لا يقبل الشك. ولكني أعدت قراءة هذه الدراسات لعدة مرات مع التعمق في مصادرها، وفي النهاية وجدت فعلاً أن الأدلة تثبت غياب التنوين وغياب الحركات الإعرابية في غير موقع الإضافة، وكان من أهم ما أقنعني هو أولاً غياب الحركات الإعرابية في الوثائق الرسمية الأموية المكتوبة باليونانية والتي حوت عبارات عربية مكتوبة بالحرف اليوناني الذي يبين الحركات (الضمة والفتحة والسكون)، وثانياً كثرة أمثلة السجع المتوالي في القرآن وهي كلمات متتابعة تسير على سجع واحد وهذه الأمثلة تتكون في الغالب من كلمتين الثانية منهما تقع في آخر الآية ولذلك فإن الكلمة الأولى تُنطق بالإعراب والثانية لا تُنطق بالإعراب لأنها في محل وقف، ولكن حين تقرأ الكلمة الأولى دون إعراب تجدها قد تناغمت مع الكلمة التي تليها، مثل: غفورْ شكور، عليمْ حكيم، خبيرْ بصير.

 


ما هي الحجازية القديمة؟

يُقصد بالحجازية القديمة اللغة التي كان يتكلم بها أهل الحجاز في القرن الهجري الأول وما سبقه، وقد أُطلقت عليها هذه التسمية الخاصة بسبب  الاختلاف الذي وُجد بين العربية الفصحى وبين الصورة التي تتكون لدينا من دراسة رسم المصحف والبرديات العربية المبكرة التي كُتبت بأحرف يونانية وعبرية.

يعود معظم الفضل في  اكتشاف الحجازية القديمة وخصائصها إلى الباحثين:
أحمد الجلاد، وهو باحث أمريكي من أصل عربي حاصل على دكتوراة في لغات الشرق الأدنى وحضاراته من جامعة هارفارد، وهو متخصص في اللسانيات وفي دراسة اللغات العربية القديمة ودراسة النقوش الأثرية واستكشافها. والمطلع على كتبه ينبهر من معرفته الواسعة الممتدة من اللغات السامية البائدة إلى اللهجات العربية الحديثة.

مارين فان بوتن، محاضر في جامعة ليدين الهولندية، متخصص في اللسانيات وتاريخ العربية والأمازيغية ودراسة مخطوطات القرآن. 

 

مصادر الحجازية القديمة

1- الدراسة اللغوية التحليلة لرسم المصحف (المقصود برسم المصحف هو الكتابة الأصلية الخالية مما أضيف عليها لاحقاً من علامات كالنقط والتشكيل). ومن أهم ما كُتب فيها كتاب فان بوتن وفيليب ستوكس "الإعراب في رسم  المصحف" Case in the QurˀānicConsonantal Text 

وكتاب مارين فان بوتن Quranic Arabic

 2- الكلمات العربية المكتوبة باليونانية في البرديات التي تعود إلى القرن الهجري الأول في بلاد الشام ومصر، ومعظم هذه البرديات هي إدارية أموية. وبما أن الأبجدية اليونانية تكتب الحركات القصيرة (الضمة والفتحة والكسرة) فقد مكنتنا هذه الكتابات من رؤية ما لا نراه في الكتابات العربية المبكرة الخالية من النقط والتشكيل. وقد تناول الخصائص اللغوية لهذه البرديات أحمد الجلاد في بحثه القيم "عربية الفتوحات الإسلامية"

The Arabic of the Islamic conquests

استمع إلى قراءة أحمد الجلاد بالحجازية القديمة لنقش على سد في الطائف تم بناؤه زمن معاوية، مع ملاحظة أن الجلاد قد نطق الهمزات لتقريب النص إلى الفصحى الحديثة وإلا فإن الحجازية القديمة كانت خالية من الهمز.



وتجد في هذا الموقع العديد من البرديات التي تعود للقرن الهجري الأول وبعضها مكتوب بالعربية واليونانية.

وهذا كتاب فيه جميع الكلمات العربية المكتوبة باليونانية في البرديات الإسلامية المبكرة والبرديات التي سبقت الإسلام.

 مع ملاحظة أن عربية ما قبل الفتوحات تختلف عن عربية الفاتحين كما يقول الجلاد، لذلك حين أستشهد بهذا الكتاب فإنني أتأكد أولاً من أن الكلمة قد وردت في بردية من القرن الهجري الأول وذلك بالعودة للكتاب التالي الذي يعرض نصوص وتفاصيل مجموعة كبيرة من البرديات، وهذا الكتاب هو المصدر الوحيد المتوفر على الإنترنت من بين الكتب التي تعرض هذه البرديات:

https://archive.org/details/greekpapyriinbri01brit

 3- بردية دمشق التي تعود للقرن الهجري الثالث وهي بردية تحوي ترجمة عربية لجزء بسيط من سفر المزامير في التوارة، وهذه الترجمة مكتوبة بالأبجدية اليونانية. وقد تناول أحمد الجلاد هذه البردية بالتفصيل في كتابه القيم

The Damascus Psalm Fragment ، ويرى الجلاد أن لغة البردية تمثل لهجة تطورت من الحجازية القديمة.

وبإمكانك أن تستمع لقراءة أحمد الجلاد لنص البردية مع ملاحظة أن النص ركيك وغير مفهوم في بعض أجزائه والسبب في ذلك أن الترجمة العربية هي ترجمة حرفية من النص الأصلي للتوراة والمكتوب باليونانية (أي أن التوراة مكتوبة باليونانية، فتمت ترجمتها إلى العربية وكُتب النطق العربي لهذه الترجمة بأحرف يونانية):


 4- البرديات العربية المكتوبة بالعبرية والتي تعود للقرون الهجرية الأربعة الأولى. ومن أهم مصادرها: 
A Handbook of Early Middle Arabic by Joshua Blau

 

خصائص الحجازية القديمة

- غياب التنوين وغياب الحركات القصيرة (الضمة والفتحة والكسرة) في أواخر الكلمات، باستثناء حالة الإضافة حيث تظهر فيها الحركة الإعرابية لأن إضافة كلمة على أخرى تحول الكلمتين إلى وحدة واحدة فتصبح الحركة الإعرابية كأنها ليست في آخر الكلمة بل في وسط الوحدة؛ فمثلا: "هذا بيتٌ جميل" في الحجازية القديمة تصبح: "هذا بيتْ جميل". أما "هذا بيتُ زيد" فلأن "بيت" هنا هي مضافة فإن الحركة الإعرابية تظهر عليها: بيتُ زيد، أو كما في الآية: مالكِ يومِ الدين. ومن هذا الباب أيضاً فإنه حين يتصل ضمير بآخر الكلمة سواء كانت الكلمة اسماً أو فعلاً فإن الحركة القصيرة في آخر الكلمة تظهر كما نجد في بردية دمشق العائدة للقرن الهجري الثالث حيث كُتبت "منحوتاتهم" و"أوثانهم" بالإعراب  manhutatihum, awthanihum  .

- التاء المربوطة لا تُنطق تاءً إلا في حال الإضافة فقط: "رحمةٌ من الله" تصبح: "رحمهْ من الله". أما "رحمةُ الله" - أي بالإضافة - فتنطق كما في الفصحى: رحمتُ الله.

- الاسم المنوَّن المفتوح يُنطق آخره بالألف (الفتحة الطويلة)؛ فمثلاً "قرأتُ كتاباً جميلا" تصبح: "قرأتْ كتابا جميلا"qaraat kitaabaa jamiilaa .

- إعراب الأسماء الخمسة والأفعال الخمسة والجمع المذكر السالم والمثنى كله يُعرب كما في الفصحى: "المعلمون هنا"، "رأيت المعلمين"، "معلمو المدرسة كثيرون"، "رأيت أبا زيد"، "مررت على أبي زيد"، "هذا أبو زيد" ... إلخ. يُستثنى من هذا أن نون المثنى والجمع رغم أنها تُحذف في الكتابة عند الإضافة لكنها تنطق في الكلام كما في البردية التي كُتبت فيها بالعربية "شهري ربيع" في حين كُتبت باليونانية بالنون: شهرين ربيع. في قراءتي للقرآن على الحجازية القديمة لا أقوم بنطق هذه النون لأن الحجازية القديمة القرآنية مبنية أساساً على رسم المصحف وهذه النون لا تُكتب فيه.

- في بردية دمشق فإن همزة الوصل في الأفعال تنطق بالفتح: "فامتنع" كُتبت باليونانية "فأَمتنع" φααμτεναγ faamtenag .

- في بردية دمشق لا وجود للام الشمسية، أي أن لام "أل" التعريف لا تُدغم بأي حرف، كمثال: "الرب" مكتوبة في البردية: أَلْرَبْ alrab وليس arrab .

- هاء الغائب إذا لم يتصل بها شيء فإنها ساكنة ولا تلحقها الحركات الطويلة (الواو أو الياء)؛ فمثلاً "بيته جميل" تُنطق بالفصحى هكذا: "بيتُهو جميل"، أما في الحجازية القديمة فهي تنطق: "بيتُهْ جميل".

- هاء الغائب إذا اتصل بها شيء فإنها مضمومة دائماً ولا تتحرك بالكسر؛ فمثلاً كلمة "عليهم" تُنطق بالفصحى بكسر الهاء "عليهِم"، ولكن في الحجازية القديمة فإنها تنطق: "عليهُم". وهذه الخاصية مطابقة لوصف النحاة للغة قريش.

- الهمزة لا تنطق إلا في حالتين: إذا كانت الهمزة في أول الكلمة وكانت هذه الكلمة هي أول ما تنطق به من الجملة (الابتداء). وهذه الخاصية مطابقة لوصف النحاة الأوائل للغة قريش. الحالة الثانية التي تنطق فيها الهمزة هي الهمزة المتطرفة الساكنة أو المفتوحة إذا كانت مسبوقة بفتحة طويلة (الألف) كما في: سماء. وهذه الحالة مُستَنتجة من فواصل (سجع) رسم المصحف وهي غير مطابقة لوصف النحاة للغة قريش؛ فوفقاً لهم لا تنطق قريش أي همزة إطلاقاً إلا في أول الكلمة المبتدأ بها.

- الألف المقصورة المرسومة ياء (ى) تُنطق بالإمالة، أي بما يماثل النطق العامي للياء في كلمة "بيت". ويُستثنى من ذلك بعض الكلمات مثل: حَتَّى وَإِلَى وَعَلَى. وهذا النطق مبني أولاً على رسم المصحف حيث نلاحظ فيه تتابع فاصلة (سجع) الألف المقصورة دون دخول فاصلة الألف عليها في غالب الأحيان، ومبني ثانياً على البرديات العربية-اليونانية من القرن الهجري الأول حيث تُكتب الألف المقصورة بحرف E بدلاً من A .

- الضاد لا تُنطق دالاً مفخمة كما هي في الفصحى اليوم بل تُنطق شبيهة بالظاء. وقد استمعت للضاد الأصلية كما ينطقها الجلاد فلم أميز بينها وبين الظاء في كثير من الأحيان لشدة التشابه بينهما.

- على خلاف ما يعتقد جمهور علماء اللسانيات العرب اليوم، فإن النطق القديم للقاف والطاء هو مماثل لنطقهما الحديث في الفصحى كما بينت البرديات العربية القديمة المكتوبة باليونانية والعبرية حيث يتم تمثيل الطاء بالتاء والقاف بالكاف مما يعني أن الطاء والقاف لم تكونا مجهورتين.

- الألفات المكتوبة بالواو في رسم المصحف مثل "الصلوة" و"الزكوة" تُنطق بالتفخيم أي بما يشبه حرف O  الإنجليزي، أو النطق العامي للواو في كلمة "فوق".

وقد تناولت الهمز والألف المقصورة ونطق الضاد في مقالتي: صفة قراءة الرسول.

 

 

مقدمة هامة

هذا هو الفصل الأول من كتاب أحمد الجلاد عن بردية دمشق، قمت بترجمته مع بعض التصرف والاختصار:

((لم يعتمد النحاة العرب في وصفهم للغة على المواد المكتوبة ولا على قواعد المدارس الإملائية، بل اعتمدوا على المصادر الشفوية: لغة أفراد القبائل العربية خاصة ممن يصفهم النحاة بأنهم "تُرتضى عربيتهم"، وكذلك اعتمدوا على شعر هذه القبائل المنقول شفاهياً. وعلى الرغم من أن النحاة لم يوضحوا معاييرهم لمن ترتضى عربيته ومن لا ترتضى، فإنه من السليم أن نفترض أنهم قصدوا اللهجات التي تحتوي على نظام إعرابي كامل. وعلى الرغم من بعض الأصوات المشككة، فإن معظم المتخصصين يعتبرون المواد العربية التي جمعها النحاة تمثيلاً صادقاً لأشكال مختارة من اللغة المحكية في القرنين الهجريين الثاني والثالث. واعتُبرت هذه اللغة التي جمعها النحاة ممثلة للغة القبائل العربية ليس فقط في القرنين الثاني والثالث، بل اعتبرت ممثلة للغة القبائل منذ بدء الزمن، ولم تتغير هذه اللغة إلا مع الفتوحات وتعلم غير العرب للغة العربية. وفقاً لهذة النظرة فإن هناك نوعين فقط من العربية: عربية ما قبل الإسلام، وهي العربية النقية ذات النظام الإعرابي الكامل، وعربية ما بعد الفتوحات الناتجة عن تعلم غير العرب للعربية، والتي تتميز بالنطق غير المثالي وضعف الالتزام بالقواعد.

إن الباحثين المعاصرين يعتبرونها من المسلمات أن لغة النحاة هي لغة قديمة تسبق الإسلام وتحدث بها جميع العرب، ولذلك فإن الكتابات العربية المبكرة كبرديات القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، والقرآن الذي أقدم مخطوطاته تسبق أعمال النحاة بأكثر من قرن، هذه الكتابات العربية المبكرة تتم قراءتها وفقاً لمعايير متأخرة كثيراً عن زمن هذه الكتابات. إن الناظر لهذه الكتابات المبكرة سيلاحظ اختلافات مهمة بين النطق الشفوي وبين النص المكتوب. فمثلاً؛ كلمة "ملىكه" الواردة في الآية السادسة من سورة التحريم، جميع القراءات القرآنية تقول بأنها تنطق: ملائكتُن. وفي حين أن تراث القراءات القرآنية يعود أقدم جزء منه إلى منتصف القرن الثاني الهجري ويعود معظمه إلى أواخر القرن الثاني وبداية الثالث، فإن الصيغة الكتابية "ملىكه" العائدة للقرن الأول لا تحتوي على الجزء الأخير "تُن". وعلى الرغم من أن الصيغة المكتوبة هي أقدم من صيغة تراث القراءات، فإن الصيغة الشفوية هي المسلم بها، ويتم تفسير اختلاف الصيغة الشفوية عن الصيغة الكتابية بأنه ناتج عن اتباع العرب الأوائل لقواعد إملائية معينة. ولهذا تجد معظم الباحثين اليوم يعتبرون لغة رسم المصحف مطابقة للكيفية التي يُتلى بها القرآن في جامعة الأزهر. ولكن مؤخراً بدأ التعامل مع رسم المصحف كنقش أثري مستقل نستنتج منه وحده خصائصه اللغوية بدلاً من افتراضها مسبقاً، وهذا أدى إلى تصور مختلف جداً حول اللغة الأصلية للقرآن.

وبنفس طريقة تعامل الباحثين المعاصرين مع القرآن، فهم أيضاً يقومون بفرض القراءة العربية الفصيحة (لغة النحاة) على النقوش العربية القديمة التي تسبق الإسلام، مما يعطل أي محاولة لفهم العربية في مراحلها المبكرة.

كمثال على ذلك نقش النمارة (الموجود جنوب سوريا والذي يسبق الإسلام بثلاثة قرون)، حيث أن النص الحرفي لبدايته هو:

تي نبس مر ءلقيس بر عمرو ملك ءلعرب كله ذو أسر التاج

(هذا شاهد قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلها الذي أسر التاج)

الباحث جيمس بيلامي قدم هذه القراءة للنقش (لاحظ تأثير الفصحى على قراءته) :

تي نفسُ امرئِ القيسِ بر عَمْرِن ملكِ العربِ كلِّهِ ذو أسرَ التاجَ

tī nafsu mriʔi l-qaysi bar ʿamrin maliki l-ʕarabi kulli-hi ḏū ʔasara t-tāǧa

 ولكن نقش النمارة يحوي خصائص غير موجودة في الفصحى ونادرة الذكر في أعمال النحاة، كاسم الإشارة "تي"، واستخدام كلمة "نفس" بمعنى شاهد القبر، واستخدام ظرف الزمان "عكدى" (وهي دمج لكلمتي عن قضى، بمعنى بعد ذلك) . وكذلك توجد خصائص في النقش يتم تجاهلها من الباحثين مثل أن أل التعريف مكتوبة "أل" في جميع المواضع بما فيها مواضع اللام الشمسية، فإذا كانت اللام الشمسية في القرن الهجري الأول تُكتب – مع أنها لا تُنطق - بسبب قواعد هجائية متبعة، فهل معنى ذلك أن هذه القاعدة الهجائية كانت موجودة قبل الإسلام بثلاثة قرون؟

إن فرض العربية الفصحى على النقوش القديمة يخلق تصوراً زائفاً مفاده أن العربية الفصحى كانت لغة العرب في كل مكان وزمان. ومما ساعد على هذا التصور الزائف طبيعة الأبجديات السامية التي لا تكتب الأصوات القصيرة (الحركات: الفتحة والكسرة والضمة).

ولكن هناك مجموعة لغوية كشفت لنا الخطأ المنهجي في قراءة النقوش القديمة وفقاً للعربية الفصحى، هذه المجموعة هي النقوش العربية المكتوبة بأحرف يونانية (وأهميتها تكمن في أن الأبجدية اليونانية هي كالإنجليزية تكتب الحركات القصيرة بخلاف العربية التي تكتب فقط الحركات الطويلة الألف والياء والواو). هذه النقوش متوفرة بشكل كبير في جنوب سوريا والأردن وتعود إلى القرون الميلادية الستة الأولى. ومن هذه النقوش يتبين أن لام "أل" التعريف كانت تنطق دائماً فلا وجود للام شمسية، ويتبين أن حركتي الضم والكسر الإعرابيتين كانتا غائبتين بخلاف حركة النصب بالفتحة فهي موجودة، بالإضافة إلى خصائص أخرى. هذه النقوش تعود لنفس منطقة ونفس فترة نقش النمارة، وبالتالي يجب أن يُقرأ نقش النمارة وفقاً للغة هذه النقوش العرب-يونانية وليس وفقاً لعربية نحاة الكوفة والبصرة في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.


وفي عام 2014 اطلعت على نقش عربي مكتوب باليونانية يعود إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي ويحوي كلمات كانت قد صادفتني في الكثير من النقوش العربية الشمالية القديمة المكتوبة بالخط الصفائي (الذي لا يكتب الحركات) وبالتالي كشف هذا النقش اليوناني عن معلومات مهمة حول نطق هذه الكلمات التي مرت علي من قبل مكتوبة بالخط الصفائي، يقول النقش اليوناني:

(ουα ειραυ βακλα βιΧανου(ν
بتحويل الأحرف اليونانية إلى ما يقابلها في الإنجليزية نحصل على:

oua eirau bakla bikanoun

ويِرعَوْا بقلَ بكانون (أي شهر كانون).

نلاحظ أن النقش يختلف عن الفصحى في النواحي التالية:

الياء في "يرعوا" مكسورة بدلاً من أن تكون مفتوحة. "بقل" منصوبة بالفتحة "بقلَ" أو بالألف "بقلا" وليست منونة "بقلاً". وهذه صيغة غير معروفة في الفصحى في الوصل. (تعليق: أي أن تنوين النصب لا يُقرأ ألفاً إلا إذا كانت الكلمة في الوقف أي في آخر الكلام، مثلاً: قرأت كتاباً جميلا. "كتاباً" لا تُقرأ بالألف بل بالتنوين لأنها ليست آخر ما تنطقه، أما "جميلا" فتنطق بالألف لأنها في محل الوقف. وكلمة "بقل" في "ويرعو بقل بكنانون" ليست في محل وقف وبالتالي نطقها "بقلا" هو خارج عن قواعد الفصحى. هذا النقش قد يشير إلى شيء مهم حول كتابة الكلمة المنونة المفتوحة بألف في آخرها، حيث أن أساس هذه القاعدة الهجائية أن هذه الكلمات في لغة القرآن كانت تنطق أصلاً بالألف في آخرها ولم يكن فيها تنوين سواء في الوقف أو الوصل، أي أن الآية "لينذر بأساً شديداً من لدنه" نطقها الأصلي هو: لينذر باسا شديدا من لدنه. مع ملاحظة أن الأبجدية الصفائية لا تستخدم حرف الألف إلا للإشارة إلى الهمزة لذلك الكتابات الصفائية لا يظهر عليها أثر الألف (الفتحة الطويلة) في آخر الاسم المنصوب لأن الأبجدية الصفائية ليس فيها حرف يمثل صوت الفتحة الطويلة. انتهى التعليق)
يواصل أحمد الجلاد فيقول:

إن الدراسة المتأنية للنقوش العربية  القديمة تكشف صورة مختلفة تماماً عن الصورة التي تقدمها المصادر التاريخية الإسلامية؛ حيث لا نجد أثراً لعربية النحاة، بل تقدم الجزيرة العربية درجة عجيبة من التنوع اللغوي. إن اللهجات العربية القديمة تختلف بأشكال غير مسجلة لدى النحاة، وتغيب عنها خصائص رئيسية في عربية النحاة، كالتنوين الذي لا نجد له أثراً في كتابات اللغات السامية الجنوبية ولا في النقوش العربية-اليونانية. وفي حين أن غياب تمثيل التنوين بحرف النون في الكتابة العربية يتم تفسيره على أنه عادة إملائية، فإن هذا التفسير لا يصلح حين تُكتب العربية بأبجديات أخرى كاليونانية وغيرها من الأبجديات الموجودة قبل ظهور الأبجدية العربية نفسها. كل هذا يعني شيئاً واحداً: أن التنوين قد فُقد في معظم اللهجات العربية القديمة. (تعليق: هذا لا يعني إنكار وجود التنوين لدى كل العرب قديما؛ فالتنوين موجود اليوم في اللهجة النجدية وبعض لهجات الجزيرة وهذا يعني أن التنوين لم يكن مندثراً لدى جميع العرب زمن الرسول).

إن دراسة النقوش العربية التي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام تكشف خللاً منهجياً في دراسة الكتابات الإسلامية المبكرة: كيف يمكن لنا أن نتأكد أن الكتابات الإسلامية المبكرة كانت تمثيلاً للعربية الفصحى في ظل غياب أي دليل على وجود مثل هذه اللغة النموذجية قبل الإسلام؟)) . انتهى كلام الجلاد.


البرديات الأموية المكتوبة باليونانية

تكتسب هذه البرديات أهميتها في كونها أولاً مبكرة حيث تعود إلى القرن الهجري الأول، وثانيا في كونها وثائق رسمية أموية وهذا يعني أنها كُتبت على مستوى عالٍ من الدقة والحرص ويُفترض بلغتها أن تمثل اللغة العربية الرسمية.

من المسلمات لدينا اليوم أن العرب الأوائل كانوا يتكلمون بالإعراب الكامل والتنوين؛ فهكذا تتم قراءة الأحاديث النبوية، وهكذا يتكلم الممثلون في الأعمال التلفزيونية التاريخية فترى كل شخص فيها يتحدث وكأنه سيبويه. ولكن الوثائق الرسمية الأموية نقلت لنا صورة مختلفة تماماً؛ حيث بينت غياب التنوين وغياب الحركات الإعرابية القصيرة في غير موضع الإضافة.

يقول أحمد الجلاد: ((من الواضح أن لغة هذه البرديات قد فقدت الحركات الإعرابية القصيرة في أواخر الكلمات، ولكن لم تفقد الحركات الإعرابية الطويلة (الواو والياء والألف) ولم تفقد الحركة الإعرابية في حال الإضافة. فهذه البرديات تشير إلى بقاء الإعراب في مثل هذه المواضع. وهذه المواضع هي نفس المواضع التي بقي فيها الإعراب في لغة رسم المصحف (أي اللغة المستنتجة من دراسة رسم المصحف كنقش أثري مستقل بعيداً عن أقوال أهل النحو والقراءات) .)) لغة الفتوحات للجلاد ص11


سأحوّل كل ما هو مكتوب باليونانية إلى ما يقابله بالأبجدية الإنجليزية، وإذا أردت أن تتمكن من قراءة الكلمات اليونانية بنفسك فإليك هذه الصورة التي توضح نطق كل حرف يوناني:

 


 سأبدأ مع نقش يوناني على حجر تأسيسي لمركز استحمام، والنقش مؤرخ بعام 42 للهجرة. ترجمة بداية هذا النقش هي:

"في أيام عبد الله معاوية أمير المؤمنين، الحمامات الساخنة للناس تمت إعادة بنائها..."

"عبد الله" كان لقباً يستخدمه الحكام الأمويون. ومعاوية المذكور في النقش هو الصحابي معاوية بن أبي سفيان. المهم في هذا النقش أن عبارة "عبد الله معاوية أمير المؤمنين" قد كُتب النطق العربي لها بأحرف يونانية (ما تحته خطر أحمر).


 بتحويل النص اليوناني إلى ما يقابله من الأحرف الإنجليزية نحصل على:

ABDALLA MAAUIA AMIRALMUMENEN

 نلاحظ الاختلافات التالية عن العربية الفصحى:

آخر كلمة "عبد" بدلاً من أن يتحرك بالضم فإنه قد تحرك بالفتح بفعل أل التعريف في الكلمة التي تليها: الله.

وكلمة "الله" لم تتحرك بالكسر بل ساكنة.

ومعاوية لم يُكتب آخرها تاءً مضمومة "معاويتُ". وأمير لم تتحرك بالضم بل بالفتح بفعل أل التعريف في الكلمة التي تليها: المؤمنين.

ونلاحظ أن كلمة معاوية نُطقت بفتح الميم: مَعَاوية MAAUIA.

ونلاحظ أن كلمتي "الله" و"معاوية" لم تكتبا بالهاء في آخرهما وهذا سببه أن الأبجدية اليونانية لا تحوي حرف الهاء.

 رابط النقش:

https://www.islamic-awareness.org/history/islam/inscriptions/hammat.html

 

والآن قد تتساءل: لقد قال الجلاد أن الحركة الإعرابية موجودة في حال الإضافة في الحجازية القديمة، ومع ذلك نرى في هذه البردية أن الحركة الإعرابية غائبة عن كلمة "أمير" في "أمير المؤمنين" وكلمة "عبد" في "عبد الله".

الجواب على ذلك أن الجلاد (ص12-13) يرى أن التقاء الحركة الإعرابية مع ألف أل التعريف يؤدي إلى غلبة حركة أل التعريف على الحركة الإعرابية وذلك عبر قانون تحول صوتي؛ ففي حالة "أميرُ المؤمنين" مثلاً فإن التقاء ضمة الراء مع ألف أل التعريف يؤدي إلى تولد فتحة طويلة (ألف) :

amiiru almuuminiin => amiiraalmuuminiin

ثم تتقلص هذه الفتحة الطويلة لتتحول إلى فتحة قصيرة:

amiiraalmuuminiin => amiiralmuuminiin

 

ومما يشير إلى صحة هذا التفسير أن من بين أكثر من مئة تركيب إضافة وردت في البرديات توجد حالة واحدة فقط لا يبدأ فيها المضاف إليه بأل التعريف، وفي هذه الحالة الوحيدة ظهرت حركة الضم على المضاف؛ إذ كُتب الاسم "أمُّ يوسف" بضم الميم: ummu yusif

ولكن القاعدة الصوتية التي يتحدث عنها الجلاد والتي تؤدي إلى اختفاء الحركة الإعرابية حين تأتي بعدها أل التعريف، هذه القاعدة لا تسير عليها لغة رسم المصحف حيث تبقى الحركة الإعرابية حين تأتي بعدها أل التعريف، مثال: "جزاءُ الظالمين" وردت مرتين بكتابة الهمزة واواً وهذا يعني أنها مضمومة: جزاوا الظالمين.

 

فلنبدأ باستعراض بعض البرديات:

تحمل البرديات الرسمية الأموية بروتوكلاً يتكرر في العديد من الرسائل ويُكتب هذا البروتوكول باللغتين العربية واليونانية؛ انظر البروتوكول التالي من بردية تعود لعهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي حكم بين عامي 86 هـ - 96 هـ.

https://www.islamic-awareness.org/history/islam/papyri/enlp1.html

  


إليك تفريغ البردية مع ملاحظة أن ما بين الأقواس هو كتابات مفقودة في البردية ولكن تم ملء هذه الفراغات عبر المقارنة برسائل أخرى.

 


نلاحظ لقب الخليفة باليونانية: عبد الله ا<لوليد> أمير الـ<مؤمنين>.

كُتبت كلمة عبد الله هكذا: ABDELLA

في حين كُتبت الكلمة في النقش الصخري السابق ABDALLA

وهذا مطابق للهجاتنا العامية اليوم فالاسم الأول من هذه الأسماء المركبة التي تسبق أل التعريف يتحرك إما بالفتح A أو بالإمالة  E فهناك من يقول عبدَ الرحمن وهناك من يقول عبدِ الرحمن.

وقد وردت مثل هذه الأسماء المركبة عشرات المرات في البرديات اليونانية ولم نجد في أي مرة آخر الاسم الأول متحركاً بالضم، وهذا وفقاً للجلاد بسبب قاعدة التحول الصوتي التي سبق عرضها.


 ونلاحظ أيضاً أن كلمة "الله" لم تتحرك بالكسر.

أما لقب "أمير المؤمنين" في البردية السابقة فقد كُتب Amiralmumnin

نلاحظ فيه كما سبق غياب الإعراب ولكن نلاحظ فيه أيضاً أن الميم الثانية في كلمة "مؤمنين" هي ساكنة أي أن الكلمة تُنطق: مومْنين. وهذا شبيه لما نجده في لهجاتنا العامية حيث نقول: سامْعين، فاهْمين، عارْفين.

يقول أحمد الجلاد في كتابه عن عربية الفتوحات ص5: ((العبارة الشائعة "أمير المؤمنين" تُكتب بشكل دائم Αμιραλμουμνιν والتي لا يمكن نطقها إلا هكذا: amiiralmuumniin . وهي مخالفة للعربية الفصحى حيث يُفترض أن تكون: amiiru-l-muuminiin.)).

 لقد وردت "أمير المؤمنين" عشرات المرات في البرديات اليونانية دون أن نرى حالة واحدة تحركت فيها كلمة أمير بالرفع بل هي مفتوحة في جميع الحالات بفعل أل التعريف التالية لها.

 

بردية أخرى:

https://www.islamic-awareness.org/history/islam/papyri/jerus.html



هذه بردية تعود لعام 54 هجرية وهي رسالة أموية رسمية تطالب أهل مدينة نصان في فلسطين بدفع الجزية التي عليهم، والرسالة مكتوبة باللغتين العربية واليونانية.



وردت في الرسالة الأسماء التالية مكتوبة بالعربية واليونانية: الحارث بن عبد، عدي بن خالد، بني سعد بن مالك. ووردت أيضاً عبارة "شهري ربيع". 

 


لاحظ غياب الحركات الإعرابية عن "الحارث" و"عدي" و"سعد". أما كلمة "بن" فقد جرت العادة في مثل هذه الرسائل على كتابتها اختصاراً بحرفها الأول فقط B.

ولاحظ أيضاً أن "شهري ربيع" قد كتبت باليونانية بإثبات النون: شهرين ربيع. وقد وردت هذه الصيغة باليونانية ثلاث مرات في البرديات وفي جميعها تم إثبات النون، وهذا النطق مطابق للهجاتنا العامية اليوم حيث أننا لا نحذف نون المثنى أو الجمع عند الإضافة حيث نقول: "مدرسين المدرسة" بدلاً من صيغة الفصحى: "مدرسي المدرسة".

يقول أحمد الجلاد: ((وردت أمثلة المثنى في البرديات ثلاث مرات في عبارة "شهري ربيع". وعلى الرغم من أن المثنى هنا هي في حال الإضافة، فقد احتفظت بالنون الأخيرة، مما يشير إلى غياب التفريق بين حال الإضافة وغير الإضافة فيما يتعلق بهذه النون، وهذه خاصية شائعة في البرديات العربية التي تسبق القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وهي أيضاً من خصائص اللهجات العربية الحديثة.))



ومن خصائص لغة هذه البرديات كما يقول الجلاد ص14 أن التاء المربوطة لا تُنطق تاءً إلا في موضع الإضافة، وهي بذلك مطابقة للغة رسم المصحف كما سيمر معنا لاحقاً؛ فقد رأينا كيف أن كلمة "معاوية" في النقش الصخري لم يُكتب آخرها بالتاء، ولكن التاء نجدها مكتوبة في "أَمَة الله": αμαθαλλα amatalla :

المصدر:

Kaplony, Andreas, The orthography and pronunciation of Arabic names and terms in the Greek , p.16

 

ونلاحظ في البرديات أيضاً أن اسم الرسول يُكتب على ثلاثة أشكال: mamet, maamed, maamet

يقول الجلاد ص15 أن هذه الأشكال تعطي ثلاثة احتمالات لكيفية نطق الاسم: مَحَمَّد mahammad ، مْحَمَّد mhammad ، أو مَحْمِد mahmed . أما صيغة Muhammad  فقد وردت في مصدر مبكر مكتوبة بالآرامية هكذا: موحمد. 

 

إشكال والجواب عليه:

قد يقول قائل أن هذه الكلمات في البرديات قد كُتبت على مبدأ الوقف ولذلك لم نجد فيها الحركات الإعرابية ولا التنوين؛ أي أن المملي أملى هذه الكلمات واحدة واحدة: عبد... الله... معاوية.... أمير... المؤمنين. فسجلها الكاتب اليوناني كما سمعها.

الجواب:

هناك أمثلة بينت بوضوح أن الكتابات اليونانية لم تنقل لنا هذه الكلمات بصيغة الوقف؛ من هذه الأمثلة:

أمُّ يوسف ummu yusif

"أبي العاص" كُتبت abilaas  αβιλαας  ، ولو كانت الكتابة على الوقف لكُتبت: abi alaas  (المصدر كابلوني ص14)، ومثلها اسم "أبو الجراح" حيث كُتبت      aboulgerra αβουλγερρα   (كابلوني ص27).

في الكثير من الأسماء المركبة مثل  abdella لم نجد أل التعريف قد كُتبت al بل كُتبت el وذلك لأن أل التعريف وكما نلاحظ في لهجاتنا العامية من الممكن أن تنطق بالفتح أو بالإمالة، ولو كانت الكتابة على الوقف لوجدنا أل التعريف دائماً مكتوبة al .

 

إشكال آخر: أن هذه البرديات تمثل الاختلاس وهي ظاهرة مسجلة في كتب اللغة أن من العرب من يختلس الحركات الإعرابية. والجواب على هذا أن الاختلاس لا يفسر نطق كلمة مثل "معاوية" دون تاء في آخرها؛ فكيف تتحول "معاويتُ" بالاختلاس إلى "معاويه"؟. ولماذا تُكتب الرسائل الأموية الرسمية بمثل هذا الاختلاس الذي هو من سمات الكلام السريع؟.

 

بردية دمشق

تعود البردية للقرن الهجري الثالث وهي تحوي ترجمة عربية لجزء بسيط من سفر المزامير في التوراة، وهذه الترجمة مكتوبة بالأبجدية اليونانية. وقد تناول أحمد الجلاد هذه البردية بالتفصيل في كتابه القيم TheDamascus Psalm Fragment.

إليك نص البردية مع قراءة الجلاد للنص:


(( (فسالت) مَيَّهْ والأودية فاضت لعل وخبز يقدر يعطي أو يهيِّي (يهيء) مايدة (مائدة) لشعبه. لذلك سمع الرب فامتنع والنار اشتعلت في يعقوب ورُجُز صعد على إسراييل لأنهم لم يومنوا بالله ولا توكلوا على خلاصه، وأمر السحىب (السحاب) من فوق وأبواب السما فتح وأمطر لهم منّا لياكُلوا وخبز من السما أعطاهم خبز الملايكة أكل إنسان شبع بعث لهم ليتمَلَّوْا. أهاج التيْمَن* من السما وأتى بقوته العاصف وأمطر عليهم مثل التراب لحوم ومثل رمل البحور طيور مِجْنِحَة فوقعت في وسط عسكرهم حول خيامهم فأكلوا وشبعوا جدا وشهوتهم جاب لهم لم يُعدموا شهوتهم وعندما كان الطعام في فاهم وابتلوا ومرموا الإله العالي وشهاداته لم يحفظوا وانقلبوا وغدروا مثل آبايهُم انقلبوا مثل القوس العوجى وأسخطوه بأوثانهم وبمنحوتاتهم أغاروه. سمع الله وتغافل وأفسل جدا لإسراييل وأقصا خيمة سيلوم المسكن الذي أسكن في البشر وأسلم للسبي قوتهم.))



ملاحظة: بعض الجمل ركيكة وكلماتها غير منطقية الترتيب، مثل: خبز الملايكة أكل إنسان شبع بعث لهم ليتملوا. يقول الجلاد أن هذا سببه الترجمة الحرفية من النص الأصلي أي أن ترتيب الكلمات في الجملة السابقة هو ذات الترتيب في اللغة الأصلية.

 للمقارنة، إليك ما يقابل البردية في الترجمة العربية الحديثة للتوراة. ما يقابل البردية يبدأ مع "فجرت مياه" وينتهي بـ "وسلم للسبي عزه":

سفر المزامير، المزمور 78

78 :19 فوقعوا في الله قالوا هل يقدر الله ان يرتب مائدة في البرية

78 :20 هوذا ضرب الصخرة فجرت المياه و فاضت الاودية هل يقدر أيضا ان يعطي خبزا و يهيئ لحما لشعبه

78 :21 لذلك سمع الرب فغضب و اشتعلت نار في يعقوب و سخط أيضا صعد على إسرائيل

78 :22 لانهم لم يؤمنوا بالله و لم يتكلوا على خلاصه

78 :23 فامر السحاب من فوق و فتح مصاريع السماوات

78 :24 و امطر عليهم منا للاكل و بر السماء اعطاهم

78 :25 اكل الانسان خبز الملائكة أرسل عليهم زادا للشبع

78 :26 اهاج شرقية في السماء و ساق بقوته جنوبية

78 :27 و امطر عليهم لحما مثل التراب و كرمل البحر طيورا ذوات اجنحة

78 :28 و اسقطها في وسط محلتهم حوالي مساكنهم

78 :29 فاكلوا و شبعوا جدا و اتاهم بشهوتهم

78 :30 لم يزوغوا عن شهوتهم طعامهم بعد في أفواههم

...

78 :56 فجربوا و عصوا الله العلي و شهاداته لم يحفظوا

78 :57 بل ارتدوا و غدروا مثل ابائهم انحرفوا كقوس مخطئة

78 :58 اغاظوه بمرتفعاتهم و اغاروه بتماثيلهم

78 :59 سمع الله فغضب و رذل إسرائيل جدا

78 :60 و رفض مسكن شيلو الخيمة التي نصبها بين الناس

78 :61 و سلم للسبي عزه و جلاله ليد العدو

المصدر:

https://st-takla.org/pub_oldtest/19_psalm.html#78

 

خصائص لغة بردية دمشق:

1- بالاستماع إلى قراءة الجلاد للنص نلاحظ أن هاء الغائب دائماً مضمومة: آبايهُم، أوثانِهُم، منحوتاتِهُم. وهذا الضم من خصائص لغة قريش كما قررت كتب اللغة. ونلاحظ أيضاً تسهيل الهمز وهو خاصية أخرى من خصائص لغة قريش. لذلك يرى الجلاد أن لغة هذه البردية هي لهجة متطورة من لغة قريش.

 2- نلاحظ فقدان التنوين والحركات الإعرابية، أما حين يتصل ضمير بالكلمة فإن الحركة الإعرابية تظهر في مواضع ولا تظهر في أخرى:

حيث ظهر الإعراب في: آبايِهُم، بأوثانِهُم وبمنحوتاتِهُم.

لم يظهر الإعراب في: شهوتْهُم، عسكرْهُم، خيامْهُم.

 3- نلاحظ أن التاء المربوطة لم تُنطق تاء إلا في الإضافة: خيمت سيلوم.

أما في غير الإضافة فنُطقت هاء وذلك لغياب الحركات الإعرابية: الأوديه، مايده، الملايكه. وهذه الهاءات كُتبت: eh بما يماثل اللهجات الشامية اليوم.

 4- كلمة "جداً" وردت مرتين، وفي كليهما كُتب آخر الكلمة بحرف a دون تنوين: gedda، وهذا كما يرى الجلاد من بقايا الحجازية القديمة التي تنطق تنوين النصب بالألف سواء في الوصل أو الوقف.

 مثال على ورود كلمة جدا:

فأكلوا وشبعوا جدا وشهوتْهُم جابْ لهم

ص84

 


 5- غياب اللام الشمسية حيث كُتبت لام التعريف في الكلمات التالية: الرب، النار، السحاب، السما، التراب، للسبي.

ولكن في البرديات الأموية فإن اللام الشمسية محذوفة في كلمات مثل عبد الرحمن حيث كُتبتabderaman  . 

 6- همزة الوصل في الفصحى لا تُنطق في الوصل، مثل: واسمه أحمد (تنطق: وَسْمُهو أحمد)، وتُنطق ألفاً مكسورة في الابتداء، مثل: اسمي أحمد (إسمي أحمد). في بردية دمشق جميع أمثلة همزة الوصل كانت مع ثلاثة أفعال، وفي اثنتين نطقت همزة الوصل همزة مفتوحة: فأَمتنع، وأَبتلوا.


 

برديات عربية مكتوبة بالعبرية

على الرغم من أن الأبجدية العبرية هي مثل العربية لا تكتب الحركات القصيرة، إلا أنه يتم أحياناً استخدام أحرف الحركات الطويلة (الألف والواو والياء) يتم استخدامها للتعبير عن الحركات القصيرة. كما أن الفتحة الطويلة (أي الألف) غالباً لا تُكتب في العبرية. وعلى الرغم من هذا القصور في الأبجدية العبرية فإن هذه النصوص العربية المكتوبة بالعبرية تبين غياب التنوين والحركات الإعرابية لأن التنوين لا يُكتب كنون ولأن التاء المربوطة تُكتب هاءً. نذكر المثال التالي من أحد البرديات التي تعود إلى القرون الهجرية الثلاثة الأولى ومصدرها مصر:
 


المصدر: Joshua Blau, A handbook of early Middle Arabic, 2002, p.140

يرد في الصورة السابقة النص العبري التالي 

ונחן פי עפיה ואלה מחמוד עלא דלך

بتحويل كل حرف منه إلى ما يقابله في الأبجدية العربية نحصل على:

ونحن في عفيه واله محمود علا ذلك (ونحن في عافية والله محمود على ذلك)

لو كانت الحركات الإعرابية موجودة لكُتبت الجملة هكذا:

ונחן פי עפיתן ואלה מחמודן עלא דלך

 ونحن في عفيتن واله محمودن علا ذلك


لغة رسم المصحف

أشار أحمد الجلاد إلى أهمية دراسة رسم المصحف واستنتاج خصائصه اللغوية بشكل مستقل بعيداً عن الافتراض المسبق بأنه مكتوب بالعربية الفصحى، وقد قام بهذه الدراسة لرسم المصحف الباحث مارين فان بوتن، الذي يقول: 

((حين نبحث عن إجابة على السؤال "ما هي لغة القرآن"، تخفق القراءات القرآنية في تقديم الجواب؛ فهذه القراءات متنوعة في خصائصها اللغوية، ولا توجد واحدة منها تمثل لغة تطورت بشكل طبيعي، ويجب اعتبار هذه القراءات نتاجاً لمجهود من أئمة القراءة لتجميل التلاوة القرآنية عبر استخدام خصائص لغوية وصوتية مميزة مأخوذة من لهجات متعددة. ولكن هناك مصدراً يحمل معلومات لغوية تعود إلى العقود الأولى للإسلام: وهو رسم المصحف.)) عربية القرآن ص99


وفي كتاب "الإعراب في القرآن" ابتدأ مارين فان بوتن وفيليب ستوكس بحثهما بالإشارة إلى عدم التطابق بين رسم المصحف وكيفية نطقه عبر القراءات، ومن أبرز وجوه عدم التطابق:

عدم كتابة التنوين؛ كلمة مثل "كتاب" تُنطق "كتابُن".

التنوين المفتوح يُكتب بالألف "كتابا" ولكن هذه الألف لا تُنطق في غير الوقف حيث تُنطق الكلمة: كتابَن.

هاء الغائب تُكتب بالهاء فقط حتى في المواضع التي تُنطق فيها بواو أو ياء في آخرها، مثل كلمة "عنده" حيث تُنطق "عندهو".

التاء المربوطة في أغلب الأحيان تكتب هاء ولكنها تُنطق تاء: "كلمة طيبة" تُنطق "كلمتَنْ طيبتَن".

 التفسير التقليدي لهذه الظواهر هو أن القرآن قد كُتب على الوقف؛ أي أن الكلمة تُكتب كما تُنطق في حال الوقف أي إذا كانت الكلمة في آخر الكلام أو توقفت عند الكلمة لأخذ النفس؛ فمثلاً وفق قواعد الفصحى أنت لا تقول "كتابٌ جميلٌ" أي بتنوين الكلمة الثانية وإعرابها: كتابُن جميلُن. بل تقولها: كتابُن جميلْ. فكلمة جميل هي في محل وقف ولذلك الكلمة في هذا الموضع تُعامل معاملة مستقلة فتسقط عنها الحركة الإعرابية والتنوين، وقد كُتب القرآن على هذا المبدأ في جميع كلماته أي أن كل كلمة كُتبت كما لو أنها في محل الوقف، ولهذا لا نجد التنوين مكتوباً، ولهذا فإن تنوين النصب يُكتب بالألف لأن الوقف عليها يحولها إلى ألف: "قرأتُ كتابَنْ جميلا". ولهذا أيضاً لا تُضاف الحركة الطويلة (الواو أو الياء) إلى هاء الغائب، ولهذا أيضاً التاء المربوطة تُكتب غالباً بالهاء.

ينبه فان بوتن وستوكس إلى أن قاعدة الكتابة على الوقف هي قاعدة لا نجدها في أي لغة أخرى، كما أن الدراسة  التي قاما بها لرسم المصحف تقدم أدلة على أن المصحف لم يُكتب وفقاً لهذا المبدأ.

 

الدليل الأول: السجع الداخلي

السجع الداخلي هو سجع يحصل بين كلمات متتابعة أو بين كلمات داخل الجملة الواحدة أو البيت الشعري الواحد؛ فمثلاً في الشعر يحصل السجع أو القافية بين نهايات الأبيات، ولكن لو وجدت كلمات داخل البيت الواحد تنتهي بذات السجع، فهذا يُسمى بالسجع الداخلي، والسجع الداخلي يُستخدم بكثرة في الشعر الإنجليزي ويُسمى internal rhyme، ويُستخدم بشكل أقل في الشعر العربي، وإليك بعض الأمثلة التي وجدتها في الشعر الجاهلي:

يقول امرئ القيس في معلقته:

مَكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً

لاحظ التطابق في الوزن والسجع بين كلمتي" مكرٍ مفرٍ".

 

وكذلك قول الخنساء في رثاء أخيها:

حَمّالُ ألوِيَة هَبّاطُ أودِيَة

شَهّادُ أنْدِيَة للجَيشِ جَرّارُ

 

نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ

فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظمِ جَبّارُ

 

لاحظ أن حمال ألوية، مطابقة في وزنها وسجعها ل: هباط أودية، وهباط أودية مطابقة في وزنها وسجعها ل: شهاد أندية. وكذلك الحال في البيت الثاني مع نحّار راغيةٍ وما تلاها.

ويُستخدم السجع الداخلي في الأمثال العامية، ومنها: "اللي فات مات" حيث تلاحظ التطابق في الوزن والسجع بين كلمتي فات ومات.

وقد وجدت في القرآن الأمثلة التالية على السجع الداخلي والذي يظهر سواء قرأت الآيات بالإعراب الكامل أو بالحجازية القديمة:

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ

 وَالصَّابِرِينَ فِي ‌الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ


كان الباحث بيير لارتشر هو أول من لاحظ وجود سجع داخلي في القرآن والذي لا يظهر إلا إذا قرأت القرآن بدون التنوين والحركات الإعرابية القصيرة، حيث أورد المثال التالي:

"ناصية كاذبة خاطئة". النطق وفق الفصحى: ناصيتِن كاذبتِن خاطئه. النطق دون الحركات الإعرابية ودون التنوين وبنطق التاء المربوطة هاءً في جميع الكلمات:
ناصيهْ كاذبهْ خاطئهْ.
لاحظ هنا أيضاً أن السجع ظهر حين قرأنا الآية كما هي مكتوبة ودون أن نزيد على رسم المصحف شيئاً؛ فالرسم ينهي الكلمات بالهاء وليس التاء ولا يضيف التنوين، مما يؤكد على أن القرآن قد كُتب برسم يوافق النطق.

جاء بعد ذلك الباحثان مارين فان بوتن وفيليب ستوكس وأشارا إلى أن خواتم الآيات التي تنتهي بصفتين لله تحوي سجعاً بين الكلمتين لا يظهر إلا بإزالة الحركات الإعرابية والتنوين. وذكرا الأمثلة التالية:

-"غفورٌ شكور". وقعت هاتان الكلمتان في نهاية ثلاث آيات من القرآن، إذا نطقت الكلمتين بالإعراب والتنوين تحصل على: غفورُن شكور. ولكنك لا تحصل على "غفورُن شكورُن" لأن "شكور" هي في موضع وقف وبالتالي تسقط الحركة الإعرابية والتنوين. ولكن إذا أسقطت التنوين والحركة الإعرابية عن الكلمتين معاً حينها يظهر السجع: غفورْ شكورْ. ولاحظ مرة أخرى أن السجع قد ظهر حين قرأت الآية كما هي مكتوبة في رسم المصحف أي بدون زيادة التنوين.

- "عليم حكيم". وقد وردت في القرآن 15 مرة في أواخر الآيات. النطق وفق الفصحى: عليمُن حكيم. النطق دون إعراب ولا تنوين: عليمْ حكيمْ.

يذكر فان بوتن وستوكس عدة أمثلة أخرى ولكني وجدتها متكلفة، لذلك قمت بقراءة المصحف كاملاً بحثاً عن المزيد من أمثلة السجع الداخلي وكانت المفاجأة أنني عثرت على عدد كبير منها، مما حسم لي بما لا يقبل الشك أن القرآن قد كُتب فعلاً وفق الحجازية القديمة.

إليك الأمثلة التي عثرت عليها وهي معظمها يقع في نهاية الآية أو في موضع وقف، أي وفق الفصحى فإن الكلمة الأولى تُقرأ بالإعراب والتنوين أما الكلمة الثانية فلا تقرأ هكذا لأنها في موضع وقف، وفي بعض الأمثلة وقعت الكلمتان في موضع الوصل ولكن اختلف إعراب الكلمتين ولذلك حين زال إعراب الكلمتين ظهر السجع بينهما.

ومن أهم هذه الأمثلة هي المثال الهام التالي:
﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ۝﴾ 80:42

 هذه الآية هي الموضع الوحيد استخدم فيه القرآن كلمة "كفرة" كجمع لكلمة كافر؛ ففي بقية القرآن تم استخدام صيغة "كافرون" أو "كافرين" 126 مرة، وتم استخدام صيغة "كفار" 19 مرة، فلماذا استخدم القرآن صيغة الجمع "كفرة" في هذه الآية بالتحديد؟ لكي يحصل التطابق في الوزن والسجع بين كلمة كفرة وكلمة فجرة. وهذا السجع لا يظهر إلا إذا قُرئت الآية بدون الحركات الإعرابية القصيرة وبقراءة التاء المربوطة هاء. لاحظ التطابق في الوزن والسجع بين الكلمتين: الكفرة الفجرة. al-kafarah al-afajarh

ولكن إذا قرئت بالفصحى يختفي التناغم في الوزن والسجع بين الكلمتين: الكفرةُ الفجرة. 
al-kafartu l-fajarah 

أمثلة أخرى وجدتها على السجع الداخلي:
"عليما حكيما". وردت عشر مرات في أواخر الآيات. النطق وفق الفصحى: عليمَنْ حكيما. وحين نسقط التنوين وننطق ألف التنوين المنصوبة ألفاً في كلا الكلمتين نحصل على: عليما حكيما. لاحظ إذاً أننا حين قرأنا الآية كما هي مكتوبة ولم نزد على رسم المصحف شيئاً فإن السجع يظهر، وهذا يثبت أن رسم المصحف مطابق في الغالب لنطقه، ويثبت خطأ قاعدة الكتابة على الوقف؛ فكلمة "عليما" كُتب آخرها بالألف ليس لأنك إذا وقفت عليها تظهر هذه الألف، بل كُتبت بالألف لأن التنوين المنصوب في لغة القرآن يُنطق ألفاً سواء كانت الكلمة في محل وصل أو وقف. وهذا ما وجدناه في لغة بردية دمشق وفي الكتابات العربية المكتوبة بالعبرية؛ حيث وردت كلمة "جداً" في موضع الوصل في بردية الدمشق وكانت مكتوبة هكذا jedda  .

"هُمَزَة لَمَزَة"

وَيۡلٞ لِّكُلِّ ‌هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ (الهمزة/1). النطق بالفصحى: هُمَزَتَنْ لُمَزَهْ. النطق بالحجازية القديمة: هُمَزَهْ لُمَزَهْ.

 

وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا (النبأ/13)

بالفصحى: سراجَنْ وهاجا. بالحجازية القديمة: سراجا وهاجا.


"لهبْ وتبْ"

‌تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ

 

"فكَّرْ وقدَّرْ"
إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (المدثر/18)

"أدبرْ واستكبرْ" 

ثُمَّ ‌أَدۡبَرَ ‌وَٱسۡتَكۡبَرَ (المدثر/23)

 عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا (المرسلات/6)

 لَّا ‌مَقۡطُوعَة وَلَا مَمۡنُوعَة (الواقعة/33)

 "حكيم عليم" وهي عكس "عليم حكيم" السابق ذكرها. وقد وردت خمس مرات في القرآن.

 "خبير بصير" وردت مرتين: فاطر/31، الشورى/27.

 "خبيرا بصيرا" وردت ثلاث مرات في سورة الإسراء الآيات 17، 30، 96.

"بشير ولا نذير"، "بشير ونذير"

أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ ‌بَشِيرٖ ‌وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (المائدة/19)

 "مُبَشِّرا ونذيرا"

وردت في أربعة مواضع: الإسراء/105، الفرقان/56، الأحزاب/45، الفتح/8.

مثال: وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا ‌مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا (الفرقان/56)

 

"نذير وبشير"

أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ ‌نَذِيرٌ ‌وَبَشِيرٌ(هود/2)

 "حُكْما وعِلْما"

وردت ثلاث مرات في موضع الوقف (يوسف/22، الأنبياء/79، القصص/14) ، ومرة في موضع الوصل.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسۡتَوَىٰٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ‌حُكۡمٗا ‌وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (القصص/14)

 

 "عليم حليم"، النساء/12، الحج/59

"عليما حليما"

وَكَانَ ٱللَّهُ ‌عَلِيمًا ‌حَلِيمٗا (الأحزاب/51)

 "حميد مجيد" ، هود/73

 "قريب مجيب" 

إنَّ رَبِّي ‌قَرِيبٌ ‌مُّجِيبٌ (هود/61)

 "خصيم مبين" ، النحل/4، يس/ 77

"مكين أمين"

فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا ‌مَكِينٌ ‌أَمِينٞ (يوسف/54)

 وَعِنَبٗا وَقَضۡبٗا (عبس/28)

 عُرُبًا أَتۡرَابٗا (الواقعة/37)

 "رَغَبَا وَرَهَبَا"

إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا ‌رَغَبٗا ‌وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ (الأنبياء/90)

 "ظُلْمَا ولا هَضْمَا"

وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلۡمٗا ‌وَلَا ‌هَضۡمٗا (طه/112)

 "شَيَّا فَرِيِّا"

قالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ ‌شَيۡـٔٗا ‌فَرِيّٗا (مريم/ 27)

بتخفيف الهمز على لغة قريش فإن "شيئا" تُنطق: شيَّا.


 لَّهُمۡ فِيهَا ‌نَعِيمٞ ‌مُّقِيمٌ (التوبة/21)


 "هَنِيَّا مَرِيَّا"

إِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ ‌هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا (النساء/4)

 

الكفارْ... الدارْ 

 وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (الرعد/42)     
    

أمثلة على سجع داخلي في الوصل :

"حديدْ...شديدْ"

وَأَنْزَلْنَا ‌الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ 

"قريبْ أجيبْ"
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ ‌مِنْ ‌حَمِيمٍ ‌وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (الأنعام/70)

والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ ‌مِنْ ‌حَمِيمٍ ‌وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (يونس/4)

 

وأختم بهذا المثال: الآيات التالية إذا قُرئت بالحجازية القديمة فإن كل آية ستنتهي بكلمتين على وزن واحد وكل كلمة منهما تنتهي بالألف: أكْلا لمَّا، حُبَّا جَمّا، دكّا دكّا، صفّا صفّا:

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا

 

أما أمثلة السجع الداخلي التي يحصل فيها التطابق بين الكلمتين في الوزن دون السجع، فهي كثيرة جداً وخاصة في خواتم الآيات، مثل:

عزيز حكيم، عزيزا حكيما، سميع عليم، عزيز رحيم، عليم خبير، حكيم خبير، لطيف خبير، سميع بصير، سميعا بصيرا، عليم قدير، عليم حليم، عليما حليما، حكيم حميد، سميع قريب. 

ولاحظ أنه في لغة القرآن فإن الواو تُعتبر متناغمة مع الياء كما نلاحظ في الكثير من الآيات التي تتنقل بين سجع "ـون" و "ـين" كما في:

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)

وهكذا فإن "غفور رحيم" والتي اُستخدمت كخاتمة لـ49 آية هي سجع داخلي حيث يتناغم الوزن بين غفور ورحيم. وكذلك الحال في: 

غفورا رحيما (وردت 15 مرة)

رؤوف رحيم (9 مرات)

غفور حليم (4 مرات)

وغيرها من الأمثلة الموجودة على هذا الرابط:


أمثلة على السجع الداخلي في الحديث النبوي:

لم أبحث بشكل شامل في الحديث النبوي كما فعلت مع القرآن، ولكني عثرت على الأمثلة التالية:

"شافٍ كافٍ"

بالحجازية القديمة: شافْ كافْ.

بالفصحى: شافِنْ كافْ، أو شافِنْ كافي.

هذا أهم مثال لوروده في عدد كبير من الأحاديث المتعلقة بالأحرف السبعة، ومنها ما رواه النسائي في سننه وصححه الألباني:

عَنْ أُبَيٍّ، قَالَ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِي مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا أَنِّي قَرَأْتُ آيَةً وَقَرَأَهَا آخَرُ غَيْرَ قِرَاءَتِي، فَقُلْتُ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهُ أَقْرَأْتَنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: «نَعَمْ». وَقَالَ الْآخَرُ: أَلَمْ تُقْرِئْنِي آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: " نَعَمْ إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَتَيَانِي، فَقَعَدَ جِبْرِيلَ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَسَارِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ فَكُلُّ حَرْفٍ ‌شَافٍ ‌كَافٍ.


"الوسيلة والفضيلة"
يرد هذا السجع الداخلي في الدعاء المعروف بعد الأذان: 
اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا ‌الوَسِيلَةَ ‌وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ. صحيح البخاري

"المأثم والمغرم":

أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَ الْمَغْرَمِ. صحيح مسلم


"الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق"

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو ‏ "‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاَقِ ‏"‏ ‏.

رواه أبو داود في سننه وضعفه الألباني، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره. 


"انفسح وانشرح":

إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ. رواه الطبري في تفسيره ج12 ص100 الشاملة

 

الدعاء التالي في صحيح مسلم يحوي عدة أمثلة: " لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ"، "مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ":

((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، ‌تَبَارَكْتَ ‌وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ...اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)).

 

"عاجله وآجله":

اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ ، ما عَلِمْتُ منهُ وما لم أعلَمْ ، وأعوذُ بِكَ منَ الشَّرِّ كلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ ، ما عَلِمْتُ منهُ وما لم أعلَمْ. سنن ابن ماجه وصححه الألباني

 

"من همزه ونفخه ونفثه":

كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل كبَّر، ثم يقول:

"سبحانك اللهم! وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، ثم يقول: "لا إله إلا الله" ثلاثًا، ثم يقول:

"الله أكبر كبيرًا" -ثلاثًا- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من ‌همزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ.

صحيح سنن أبي داود للألباني


"الدثور بالأجور"

أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ ‌الدُّثُورِ ‌بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ.

صحيح مسلم


"تقيّا نقيّا"

اللَّهُمَّ هَبْ لِي قَلْبًا ‌تَقِيًّا ‌نَقِيًّا مِنَ الشَّرِّ بَرِيئا لَا كَافِرًا وَلَا شَقِيًّا.

الدعوات الكبير للبيهقي

 

أمثلة وجدتها من الأمثال والنصوص العربية القديمة:

خطبة قس بن ساعدة الإيادي هي من النصوص النثرية الجاهلية المشهورة، وقد وجدت فيها سجعين داخليين؛ الأول يظهر سواء بالإعراب الكامل أو بدونه، والثاني لا يظهر إلا بإزالة الحركات الإعرابية:

"أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت."

لاحظ أن الكلمتين متطابقتان في الوزن والسجع: مات فات. وهذا السجع الداخلي يذكرنا بالسجع الداخلي في المثل العامي: اللي فات مات.


وليست الأمثال العامية فقط هي التي تستخدم السجع الداخلي، فالسجع الداخلي موجود في  الأمثال العربية القديمة ولكن فرض الإعراب الكامل عليها أدى إلى زوال هذا السجع المقصود؛ فمثلاً نقول اليوم "قد أعذرَ من أنذر" بفتح كلمة "أعذر" وهذا يفسد التطابق في الوزن والسجع بين كلمتي أعذر وأنذر. ومن الأمثال والتعابير القديمة الأخرى التي تحتوي على سجع داخلي:

اختلط الحابل بالنابل، رُبَّ قول أشد من صول، ‌غيض ‌من ‌فيض، في حيص بيص (بالفصحى: في حيصَ بيصْ)، شَذَر مَذَر، لكل مقام مقال.
جميع الأمثال السابقة إذا قرأتها بالعربية الفصحى يزول منها السجع الداخلي. 

 

 

الدليل الثاني على أن القرآن لم يُكتب على الوقف: كيفية كتابة الياء التي في آخر الكلمة.

ألخص فيما يلي ما ذكره الباحثان فان بوتن وستوكس حول هذه المسألة في كتابهما "الإعراب في القرآن":
في رسم المصحف فإن الياء الأخيرة تارة يتم إثباتها (كما في "المهتدي") وتارة لا تكتب (المهتد)، سنلاحظ من دراسة هذه الكلمات أن الياء تُحذف غالباً حين تكون في موضع وقف، وتُثبت غالباً حين تكون في موضع الوصل، وهذا يثبت أن حذف الياء هي صيغة الوقف، وهذا بدوره يثبت أن القرآن لم يُكتب على مبدأ الوقف وإلا لتمت كتابة جميع أو معظم هذه الكلمات بحذف الياء لأن حذف الياء هي صيغة الوقف.

أولاً سنقوم بتقسيم الكلمات التي تنتهي بالياء إلى قسمين: قسم يلحقه التنوين، وقسم لا يلحقه التنوين.

الكلمات التي يلحق بها التنوين مثل: هادٍ، والٍ، ليالٍ. جميع هذه الكلمات كُتبت في القرآن دون ياء سواء كانت الكلمة في موضع وقف أو وصل. وهذا سببه أن سقوط التنوين وحركة أواخر الكلمات يحول كلمة مثل "هادِن" إلى "هادْ" في الحجازية القديمة؛ أي أن الحجازية القديمة في مرحلة سابقة كان التنوين والحركات الإعرابية موجودين بها وحينها كانت مثل هذه الكلمات تُنطق هادِن، والِن، ليالِن، ثم حين سقط التنوين والحركات تحولت هذه الكلمات إلى هادْ، والْ، ليالْ.

إذاً الكلمات التي يُلحق بها التنوين هي دائماً محذوفة الياء، أما الكلمات التي لا يلحقها التنوين فإنها تارة تُكتب بالياء وتارة تُكتب بدونها، مثل كلمة "المهتدي" حيث كُتبت مرة بإثبات الياء 7:178، ومرة بحذفها: المهتد 17:97.

قام فان بوتن وستوكس ص14 بتقسيم الكلمات التي تنتهي بالياء إلى الأقسام التالية:

الأفعال:

الغالبية الساحقة من الأفعال التي تنتهي بالياء نجدها مكتوبة بالياء، باستثناء خمسة مواضع. ثلاثة من هذه المواضع حُذفت فيها الياء لأنها التقت بأل التعريف وهذا يحول الياء إلى كسرة، ولذلك في مثل هذه الحالات تُحذف الياء أحياناً وتُثبت الياء في أحيان أخرى لأن الكتاب يترددون بين الالتزام بالصيغة الكتابية وبين كتابة الكلمة كما هي منطوقة؛ الأمثلة الثلاثة هي: سوف يؤتِ الله 14:146، ننجِ المؤمنين 10:103، فما تغنِ النذر 54:5. الموضع الرابع الذي نجد الفعل فيه محذوف الياء يقع في آخر آية، ولذلك يجب أن نعتبرها صيغة وقف. الموضع الخامس كلمة "نبغِ" وهي وإن كانت لا تقع في نهاية آية ولكنها حسب السياق هي في موضع وقف: قَالَ ذَٰلِكَ ‌مَا ‌كُنَّا ‌نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (الكهف/ 64).

الأقسام الأخرى:

"ني" المفعول به، مثل: أنبئوني، واخشوني، فاذكروني.

ياء الملكية، مثل: أهلي، أخي، كتابي.

الأسماء، مثل: المهتدي.

 

لقد أحصى فان بوتن جميع هذه الكلمات في القرآن وقدم النتائج التالية التي تبين أن أغلب حالات حذف الياء حصلت في الوقف، وأغلب حالات إثباتها حصلت في الوصل، مما يعني أن حذف الياء هي صيغة الوقف وإثبات الياء هي صيغة الوصل:

في قسم الكلمات التي تنتهي بـ "ني" المفعول به (مثل أنبئوني):

حُذفت الياء في موضع الوصل 11 مرة، من بينها مرتين لمجئيها قبل أل التعريف.

وأثبتت الياء في موضع الوصل 141 مرة.

وحُذفت الياء في موضع الوقف 70 مرة: 59 في نهاية الآية، و11 في موضع الوقف وسط الآية.

ولم تُثبت الياء في الوقف أي مرة.

 

في قسم الكلمات التي تنتهي بياء الملكية (مثل كتابي):

لم تُحذف الياء في الوصل في أي مرة. (فيه إشكال سأشرحه لاحقاً، الأصح أن الياء حذفت في الوصل 49 مرة)

أثبتت الياء في الوصل 531 مرة.

حذفت الياء في الوقف  143 مرة: 15 مرة في نهاية الآية، و128 مرة في موضع الوقف وسط الآية (فيه إشكال، الأصح 94 مرة وسط الآية، ويصبح المجموع 109).

أثبتت الياء في الوقف 21 مرة.

 

في قسم الأفعال التي تنتهي بالياء (مثل يؤتي، نبغي)

حذفت الياء في الوصل في ثلاثة مواضع جميعها وقعت فيها الياء قبل أل التعريف.

أثبتت الياء في الوصل 295 مرة.

حذفت الياء في الوقف مرتين: مرة في نهاية الآية ومرة في موضع الوقف وسط الآية.

لم تثبت الياء في الوقف أي مرة.

 

في قسم الأسماء التي تنتهي بالياء (مثل المهتدي)

حذفت الياء في الوصل في 14 موضع:  9 منها قبل أل التعريف.

أثبتت الياء في الوصل 12 مرة.

حذفت الياء في الوقف 7 مرات: 4 في نهاية الآية، و3 في الوقف وسط الآية.

لم تثبت الياء في الوقف أي مرة.

 

بجمع أرقام الحالات الأربع مع بعضها نصل إلى الأرقام التالية:

حُذفت الياء في الوصل 28 مرة.

أثبتت الياء في الوصل 979 مرة.

حذفت الياء في الوقف 222 مرة.

أثبتت الياء في الوقف 21 مرة.

 

وبحساب النسب المئوية نصل إلى:

حذفت الياء في الوصل بنسبة 2.78%

وأثبتت الياء في الوصل بنسبة 97.2%

حذفت الياء في الوقف بنسبة 91.3%

وأثبتت الياء في الوقف بنسبة 8.6%

 

وهذا يبين أن حذف الياء هي صيغة الوقف، وإثبات الياء هي صيغة الوصل.

نعود إلى قسم الكلمات التي تنتهي بياء الملكية، الإشكال في إحصاء فان بوتن هنا أنه اعتبر الكلمات التي دخلت عليها ياء النداء اعتبرها في موضع الوقف وليس الوصل لأنه حسب كلامه فإنه بعد النداء من المتوقع حصول سكتة صغيرة، مثل: وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ‌يَٰقَوۡمِ (سكتة صغيرة) إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم.

وكلمة "يا قوم" وردت 47 مرة في القرآن، وفي جميعها حذفت الياء. ووردت كذلك "يا عبادِ" مرتين، فيصبح المجموع 49 حالة. إذا ألغينا اعتبار فان بوتن لهذه الكلمات بأنها كُتبت على الوقف، فإن الأرقام تصبح:

حُذفت الياء في الوصل 77 مرة (بدلاً من 28).

وأثبتت الياء في الوصل 979 مرة.

حذفت الياء في الوقف 173 مرة (بدلاً من 222).

وأثبتت الياء في الوقف 21 مرة.

 

النسب المئوية:

حذفت الياء في الوصل بنسبة 7.2% (بدلاً من 2.78%)

أثبتت الياء في الوصل بنسبة 92.7% (بدلاً من 97.2%)

حذفت الياء في الوقف بنسبة 89.17% (بدلاً من 91.3%)

أثبتت  الياء في الوقف بنسبة 10.8% (بدلاً من 8.6%)

 

نلاحظ أن الإحصاء الجديد اختلفت نتيجته بشكل بسيط عن الإحصاء الأصلي، إذاً تبقى النتيجة على حالها وهي أن حذف الياء هي صيغة الوقف وإثبات الياء هي صيغة الوصل. ونصل بذلك إلى نتيجة هامة جداً: وهي أن القرآن لم يُكتب على مبدأ الوقف؛ فلو كان كذلك لرأينا غالبية الكلمات التي تنتهي بالياء لرأيناها محذوفة الياء لأن حذف الياء هي صيغة الوقف، ولكن ما نجده في القرآن أن الياء قد أثبتت في الوصل 979 مرة.

وبما أن مبدأ الكتابة على الوقف هو الذي يبرر الظواهر التالية: عدم كتابة التنوين، كتابة التاء المربوطة هاء، عدم كتابة مد الهاء ("به" بدلا من "بهي")، إضافة الألف على التنوين المنصوب (كتاباً). فإننا نصل لنتيجة وهي أن هذه الكلمات في القرآن قد كُتبت كما تُنطق؛ فالتنوين لا يُكتب لأن لغة القرآن ليس فيها تنوين أصلاً، ومد الهاء لا يُكتب لأن الهاء في آخر الكلمة ساكنة ولذلك كلمة مثل "إنهْ" لم تكتب بالواو "إنهو"، والتنوين المنصوب يُكتب بالألف لأنه يُنطق ألفاً على كل حال وصلاً ووقفا: ولم يكن لهْ كفوا أحد. وليس كما تنطق بالفصحى: ولم يكن لهو كُفُوَنْ أحد. والتاء المربوطة لا تُكتب غالباً تاءً لأنها هاء ساكنة بسبب عدم اتصالها بالحركة الإعرابية: كلمهْ طيبهْ كشجرهْ طيبهْ. وفي أمر التاء المربوطة تفصيل بيانه فيما يلي:

 

التاء المربوطة كدليل على غياب الحركات الإعرابية والتنوين

ألخص فيما يلي ما كتبه الباحثان فان بوتن وستوكس حول هذه المسألة في كتابهما "الإعراب في القرآن":

يغلب على التاء المربوطة في القرآن أن تُكتب هاءً، ولكنها في عدد غير قليل من الحالات كُتبت تاء، مثل: رحمت الله، سنت الأولين، نعمت الله، رحمت الله.

لقد لاحظ الباحثان ص22 أن التاء المربوطة لا تُكتب تاء إلا في حال الإضافة، وهذا مشابه للهجاتنا العامية اليوم فنحن لا ننطق التاء إلا في الإضافة حيث نقول: مدرست الحي، أما في غير الإضافة فلا ننطق التاء: مدرسة كبيرة madrasa kabiira. وهذا أيضاً مطابق للبرديات اليونانية والعبرية حيث بينت أن التاء المربوطة لا تنطق تاءً إلا في حال الإضافة؛ حيث رأينا في النقش الحجري أن "عبد الله معاوية أمير المؤمنين" قد كُتبت فيها كلمة "معاوية" بدون التاء، وفي بردية يونانية كُتبت "أَمَة الله" بالتاء amatalla . ورأينا في بردية دمشق كيف أن التاء المربوطة لم تُنطق تاء إلا في الإضافة: خيمت سيلوم. أما في غير الإضافة فكُتبت هاء: الأوديه، مايده، الملايكه، مجنحه.

وقد أحصى فان بوتن هذه الكلمات في القرآن فوجد أن عدد الحالات التي وقعت فيها التاء المربوطة في كلمات مضافة هي 218، كُتبت فيها التاء المربوطة تاءً في 47 حالة، أي في 22% من الحالات. أما التاءات المربوطة التي لم تقع في كلمات مضافة فلم تكتب بالتاء إطلاقا حتى في الوصل الذي تُنطق فيه هذه التاء بسبب الحركات الإعرابية المفترضة. ولكن التاء المربوطة قد كُتبت تاءً في حالتين: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (المرسلات/33)، فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ  (فاطر/40). ولكن في قراءات عشرية أخرى فإن الكلمتين قد قرئتا بالجمع: جمالات، بينات.والتاء هنا هي تاء الجمع ولا علاقة لها بمبحث التاء المربوطة. وكون التاء المربوطة لم تكتب تاءً في آلاف الكلمات التي ليست بالإضافة يؤكد أن قراءة الجمع هي القراءة الصحيحة (هذا رأيي وليس رأي فان بوتن، فان بوتن يقول أنه لا يوجد سبب لإعطاء قراءة حفص الأولوية على غيرها.)

إذاً التاء المربوطة وردت آلاف المرات في القرآن في غير الإضافة وفي غير الوقف، أي مواضع تُنطق فيها تاءً بسبب دخول الحركة الإعرابية عليها (ملائكتُن، كلمتَنْ طيَّبتُن، والآخرتُ...إلخ). ومع ذلك لم تُكتب تاءً في هذه المواضع أي مرة، ولكنها كُتبت تاءٍ في 22% من حالات الإضافة، وهذا يعني أن النطق بالتاء لا يقع إلا في حال الإضافة، ولذلك تردد كتاب المصحف في حال الإضافة بين الالتزام بكتابة هذه التاء هاءً (كما تُكتب في غير الإضافة)، وبين كتابة النطق المسموع للكلمة، وهكذا حصلنا على نسبة 22% كُتبت فيها التاء المربوطة تاءً في حال الإضافة.

نستنتج من هذا غياب الحركات الإعرابية والتنوين، وأن التاء المربوطة لا تُنطق تاء إلا في الإضافة كما هو الحال في اللهجات العامية.

 

هاء السكت تنفي الكتابة على الوقف

استخدم القرآن هاء السكت في عدة مواضع لغرض السجع، مثل "﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ ‌حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَهْ (٢١) ﴾ الحاقة.

ولكن هناك موضعين لم تُستخدم فيهما هاء السكت لغرض السجع:

فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ ‌لَمۡ ‌يَتَسَنَّهۡۖ [البقرة: 259]

تمت إضافة الهاء إلى كلمة "يتسنّ" (أصلها يتسنّى وحذفت الألف المقصورة لأن الكلمة مجزومة).

أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ‌ٱقۡتَدِهۡۗ [الأنعام: 90]

تمت إضافة الهاء إلى كلمة "اقتدِ" (أصلها اقتدي وحذفت الياء لأن الفعل فعل أمر)

كلمة "يتسنه" هي الفعل المجزوم الوحيد في القرآن الذي وقع في الوقف، وكلمة "اقتده" هي فعل الأمر الوحيد في القرآن الذي وقع في الوقف، وبما أن الكلمتين لحقت بهما هاء السكت فهذا يعني أنه في لغة القرآن فإن الفعل المجزوم وفعل الأمر يكتبان بإضافة هاء السكت إليهما في الوقف، وبما أن ذلك لم يحصل مع بقية أفعال الأمر والأفعال المجزومة التي وردت في القرآن وهي ليست في الوقف فإن هذا يعني أن القرآن لم يُكتب على قاعدة أن كل كلمة تُكتب بصيغة الوقف.


كثرة الكلمات المكتوبة على خلاف العادة الإملائية ومع ذلك لا نجد التنوين مكتوباً

يذكر فان بوتن وستوكس أن الكثير من القواعد الإملائية المتبعة في القرآن تمت مخالفتها، ويتم تفسير هذه الحالات على أنها قد كُتبت على مراد الوصل أي كما تُنطق بالوصل، سأعرض لك عدداً من هذه الحالات وحين ترى كثرتها عليك أن تتساءل كيف نجد كل هذه الأمثلة التي كُتبت على الوصل ثم لا نجد التنوين مكتوباً أي مرة؟

ينبغي التنبيه هنا إلى أن التنوين قد ورد مكتوباً في "كأين من" حيث أن "كأين" أصلها دخول الكاف على "أيٍ". ولكن كتابة التنوين هنا لا يمكن تفسيرها على أن الكاتب كتب الكلمة على الوصل خارجاً بذلك عن قاعدة كتابتها على الوقف؛ لأن الكلمة وردت سبع مرات في القرآن وفي جميع هذه الحالات وجدنا التنوين مكتوبة، ومن غير المنطقي القول أن هذه المصادفة تكررت سبع مرات فكُتبت الكلمة ذاتها على مراد الوصل سبع مرات. ولنفهم تفسير الظاهرة علينا أن نلاحظ أنه في جميع الحالات فقد وردت "كأين" مع كلمة "من": وكأين من". لذلك يرى فان بوتن ص28 أن هذا التعبير قد شكل وحدة واحدة أي أن التنوين يقع في وسط الكلمة وليس آخرها، وحين فُقد التنوين من لغة قريش بقيت هذه النون لأنها لا تقع في آخر الكلمة.

 

أمثلة الكلمات التي خرجت عن قاعدة الكتابة على الوقف:

حذف الواو أو الياء إذا جاءت قبل أل التعريف؛ لأنه في مثل هذه الحالة تتحول الواو (الضمة الطويلة) إلى ضمة، وتتحول الياء (الكسرة  الطويلة) إلى كسرة.

أمثلة حذف الواو قبل أل التعريف:

"صالح المؤمنين" 66:4 بدلاً من "صالحو المؤمنين".

"ويدع الإنسان" 17:12 بدلاً من "ويدعو الإنسان".

"يوم يدع الداع" 54:5

"سندع الزبانية" 96:18

"ويمح الله" 42:23

 

أمثلة حذف الياء قبل أل التعريف:


 

كلمات كُتبت على الإدغام:

ألَّن بدلا من أن لن.

فإلَّم 11:17 بدلا من فإن لم.

ألَّو (الجن/16) بدلاً من أن لو.

 

حذف الألف من أول الكلمة:

"لَتَّخذتَ" بدلاً من "لاتخذت".

"أصحاب الأيكة" وردت بهذه الصيغة الأصلية مرتين، وفي مرتين أخريين وردت مكتوبة على تخفيف الهمز: أصحاب ليكة.

"الآن" كُتبت هكذا في موضع واحد، وفي سبعة مواضع أخرى كُتبت على تخفيف الهمز "ألن" (ألان، وتُحذف الألف المتوسطة مثلما حذفت في كلمات أخرى مثل كتاب).

"بسم الله" بدلاً من "باسم الله".

 

أمثلة أخرى:

في الحالات التالية كُتبت السين صاداً لوقوعها جوار حرف الطاء، وبما أن الطاء حرف مُطبق فإن السين تتحول أيضاً إلى حرف مطبق فتصبح صاداً.

"يبسط" كُتبت في القرآن بالسين إلا في موضع واحد "يبصط" (البقرة/245).

الفعل "بَسَط" ومشتقاته كُتبت في القرآن بالسين إلا في موضع واحد: "بصطة" (الأعراف/69).

"المصيطرون" بدلاً من المسيطرون، و"بمصيطر" بدلاً من بمسيطر.

 

وهناك أمثلة أخرى ولكن أكتفي بهذا القدر الذي يبين كثرة الكلمات التي كُتبت بشكل مخالف لقاعدة الوقف أو الصيغة الهجائية المتبعة مع بقية الكلمات المشابهة، ومع ذلك لا نجد مثالاً واحداً على كتابة نون التنوين على الرغم من الوقوع المفترض للتنوين في آلاف الكلمات، وكذلك الأمر مع الواو أو الياء التي تلحق بهاء الغائب "عندهو"، "بهي" حيث لم تُكتبا في أي موضع. 


الأحرف المقطعة كدليل على الحجازية القديمة

أشار فان بوتن في كتابه "عربية القرآن" إلى ما يلي: نظراً لخصوصية الأحرف المقطعة في أوائل السور، فقد احتفظت القراءات بالكيفية الأصلية لقراءتها فلم يدخلوا عليها الحركات الإعرابية، فتجد القراء يقرأون: ألفْ لامْ ميمْ، بدلاً من: ألفُنْ لامُنْ ميم. ومما يدل على أن هذه الأحرف تقبل دخول الإعراب عليها هو أن كتب الحديث قامت بإدخال الإعراب عليها في الحديث النبوي: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)). رواه الترمذي في سننه.

يقول فان بوتن:

((من السهل فهم حالة الأحرف المقطعة إذا اعتبرنا بأن القرآن لم يحتوِ في الأصل على إعراب كامل ثم لاحقاً تم فرض الإعراب الكامل عليه؛ فهذه الأحرف المقطعة ليس لها أي دور نحوي واضح وبالتالي كان من الصعب إدخالها ضمن نظام إعرابي- نحوي. ولكن العكس من ذلك هو أمر يصعب فهمه: لا يوجد سبب لغياب الإعراب عن الأحرف المقطعة إذا كانت لغة القرآن الأصلية قائمة على الإعراب. )) عربية القرآن ص200  


القراءات لا تمثل لغة القرآن الأصلية

تتفق القراءات العشر على النظام الإعرابي الكامل بما فيه من تنوين وحركات قصيرة في أواخر الكلمات، ولكن هذا الاتفاق لا يعني أن الإعراب الكامل هو جزء أصيل من القرآن؛ حيث أن الدراسة التحليلية واللغوية للقراءات تبين أنها تعرضت للتعديل، ولا توجد قراءة خصائصها تمثل لغة أو لهجة طبيعية بل كل قراءة فيها خليط من الخصائص التي لا يمكن أن تجتمع في لغة واحدة بشكل طبيعي (عربية القرآن ص99)، كما أن القراءات مليئة بالابتداع ولا تلتزم بشكل كامل بالتلقي الشفهي الذي يفترض أنه يرجع في آخره إلى محمد. يذكر مارين فان بوتن في كتابه "عربية القرآن" مثالاً على ذلك وهو أن الكسائي، وهو صاحب إحدى القراءات العشر، يعامل كلمة "ثمود" في قراءته على أنها ممنوعة من الصرف إذا كانت الكلمة مرفوعة أو مجرورة (ممنوعة من الصرف أي لا يلحقها التنوين، وفي الجر تتحرك الكلمة بالفتحة وليس الكسرة)، ويعاملها على أنها مصروفة إذا كانت منصوبة لأن كلمة ثمود في القرآن في النصب مكتوبة بألف في آخرها فمن المفترض أن يلحقها التنوين "ثموداً" أي تُعامل على أنها مصروفة، ولكن الكسائي كسر قاعدته في عدم صرف "ثمود" المرفوعة أو المجرورة؛ وذلك في هذه في الآية: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ هود/68 (في رسم المصحف كلمة ثمود الأولى تنتهي بالألف ولكن مع ذلك فإن بعض القراءات - ومن بينها قراءة حفص- لا تقرأ الكلمة بالتنوين "ثموداً" بل بالفتحة فقط "ثمودَ" أي بالمنع من الصرف مخالفين بذلك رسم المصحف) 

ترد كلمة ثمود مرتين في الآية السابقة: في الأولى منصوبة، وفي آخرها الألف في رسم المصحف، وبالتالي ولأن الكسائي يقرأ كلمة ثمود في بقية القرآن بالصرف إذا كانت منصوبة فإنه فعل ذلك هنا أيضاً فقرأ ثمود الأولى بالصرف "ثموداً"، أما كلمة ثمود الثانية فهي مجرورة وبالتالي ولأن الكسائي يعامل كلمة ثمود في الرفع والجر على أنها ممنوعة من الصرف كان يجب أن يقرأ كلمة ثمود الثانية "لثمودَ" أي بالفتحة عوضاً عن الكسر وبلا تنوين (أي بالمنع من الصرف)، ولكن الكسائي كسر قاعدته وقرأها بالصرف: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودٍ﴾

يقول الفراء (ت 207) في كتابه "معاني القرآن" ج2 ص20 ، دار المصرية

((ومنهم من أجرى (‌ثمود) فِي النصب (أي اعتبرها مصروفة في النصب) لأنّها مكتوبة بالألف فِي كل القرآن إلا فِي موضع واحد "وَآتَيْنا ‌ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً" فأخذ بذلك ‌الْكِسَائي فأجراها فِي النصب ولم يُجرها فِي الخفض ولا فِي الرفع إِلَّا فى حرف واحد: قوله (أَلا إِنَّ ‌ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً ‌لِثَمُودَ) فسألوهُ عَن ذَلِكَ فقال قرئت فِي الخفض من الْمُجْرَى وقبيح أن يَجتمعَ الحرف مرتين فِي موضعين ثُمَّ يَختلف، فأجريته لقربه منه)) 

ومعنى كلام الكسائي هنا أنه يعتبر وجود الكلمة مرتين في موضعين مختلفين وقريبين وفي نفس الآية، ثم معاملة الأولى كمصروفة لوجود الألف والثانية كممنوعة من الصرف، يعتبر أن هذا الاختلاف في المعاملة لنفس الكلمة في آية واحدة قبيحاً لقرب الكلمتين من بعضهما. وهذا يعني أن الكسائي كان يعتمد على رأيه واستحسانه الشخصي في كيفية القراءة وليس على الرواية والتلقي.

يقول فان بوتن تعليقاً على هذه الرواية:

((صحيح أن هذه الرواية لا تثبت أن القرآن كان في الأصل خالياً من الحركات الإعرابية، ولكنها تظهر دورهم في تطبيق الإعراب على التلاوة؛ فدورهم لم يكن أن يقوموا بنقل الإعراب حرفياً كما سمعوه من معلميهم، بل كان دورهم هو استحسان وتبرير الإعراب الذي يختارونه للكلمة. وفي مثل هذه الحالات فإن سبباً متعلقاً بالمظهر الجمالي المحض كالذي ذكره الكسائي هو سبب كافٍ عندهم للتخلي عما تلقوه من معلميهم، حيث أن حمزة، وهو معلم الكسائي، قرأ كلمتي "ثمود" في الآية بالمنع من الصرف. وهكذا فإن استخدام أئمة القراءة للإعراب لا يفيدنا بشيء حول استخدام الإعراب في اللغة الأصلية للقرآن. وبما أن الإعراب عند القراء اعتمد على الرأي المبني على رسم المصحف والمظهر الجمالي بدلاً من أن يعتمد على التلقي الشفهي الذي ينتهي إلى الرسول، يصبح من السهل أن نتخيل أن الإعراب نفسه ليس جزءاً أصيلاً من القرآن، بل تم فرضه في زمنٍ ما بعد جمع عثمان للمصحف))

 

يوجد دليل آخر على أن الإعراب لم يكن معتمداً على التلقي، وهو الاستخدام الخاطئ للإعراب. يذكر فان بوتن عدة أمثلة على ذلك من أبرزها كلمة "أيَّان" والتي استخدمها القرآن عدة مرات (كالآية 7:187). هذه الكلمة أصلها أي آن، وبالإعراب تصبح أيَّ آنٍ (بتنوين آن). فُقدت همزة "آن" مما سمح باندماج الكلمتين مع بعضهما "أيّان". ولكن من المفترض أن تكون هذه الكلمة منوّنة، ومع ذلك لا نجدها منوّنة في أي قراءة بل هي في كل القراءات مبنية على الفتح "أيّانَ". سبب ذلك هو أن الكلمتين في الأصل لم يكن في آخرهما حركات إعرابية: أيْ آنْ، فلما اندمجتا في كلمة واحدة وتم اعتبار هذه الكلمة على أنها كلمة مستقلة بحد ذاتها قام أئمة القراءة بجعل الكلمة مبنية على الفتح لأنهم ظنوا بأن الكلمة تنتمي لفئة من الكلمات المبنية على الفتح مثل أداة الاستفهام "أين" وظروف الزمان "يومَ" و"حينَ". فالكلمة في لغة القرآن الأصلية كانت تُنطق "أيّانْ"، ولما قام أئمة القراءة بفرض الحركات الإعرابية على القرآن جعلوا الكلمة مبنية على الفتح.


مناقشة أدلة مضادة تثبت وجود الإعراب الكامل:

بالنظر إلى كلمات مثل "جزاؤهم" "أولياؤهم" ونحوها، نجد أن الهمزة التي في آخر الكلمة (الهمزة المتطرفة) قد كُتبت واواً وذلك لأنها أُعربت بالضم، وتسهيل هذه الهمزات المضمومة يؤدي إلى تحولها إلى واو أو واو ضعيفة ولذلك كُتبت واواً. وبنفس الطريقة نجد كلمات مثل "أوليائهم" و"دعائك" تحولت الهمزة فيها إلى الياء بسبب حركة الكسر الإعرابية. هذه الكلمات تُعتبر مضافة (أولياء+هم) وبالتالي يقع فيها الإعراب وفق الحجازية القديمة، ولكن تحوّل الهمزة المتطرفة إلى واو نجده قد حصل في عدد من الكلمات غير المضافة. إليك الكلمات من كتاب "رسم المصحف" لغانم قدوري، وقد وضعت خطاً أحمر تحت الكلمات التي ليست في موقع الإضافة:

 



فهل تثبت مثل هذه الكلمات وجود الإعراب الكامل في القرآن؟

لم يتطرق فان بوتن لهذه الكلمات في كتابه، وقد سألته عبر تويتر فقال أن الكتاب كان من المفترض أن يضم حديثاً طويلاً عنها لكنه آثر أن يحذفها لطولها ليضعها في كتاب آخر يعمل عليه حالياً. لذلك أقدم من عندي هذا التفسير لهذه الظاهرة:

يعتبر غانم قدوري هذه الكلمات مما كُتب من القرآن على الوصل بدلاً من الوقف، ولكن سبق أن بينا سابقاً خطأ مبدأ الوقف من خلال تقصي أشكال الياء المتطرفة في القرآن. وبناءً على ذلك، لو كان الإعراب الكامل موجوداً لرأينا كل الهمزات المتطرفة المضمومة قد كُتبت واواً ، ولرأينا كل الهمزات المكسورة قد كُتبت ياءً؛ لأن ضم وكسر هذه الهمزات مع تسهيلها لابد وأن يحولها إلى الواو والياء، ولكن غالبية الهمزات المتطرفة في القرآن لم تُكتب كذلك (سما، دُعا، أوليا) ، وقد استخدم أحمد الجلاد هذه الملاحظة كدليل على غياب الحركات الإعرابية في القرآن (عربية الفتوحات ص11 الهامش).

إذاً هذه الكلمات القليلة التي ظهر فيها الإعراب على همزاتها المتطرفة كل ما تثبته هو أن الحركات الإعرابية في غير الإضافة لم تختفِ تماماً في لغة القرآن بل كانت تُستخدم في أحيان قليلة. ووجود نظام إعرابي غير مستقر هو أمر وجدناه في بردية دمشق ولكن في موضع الإضافة؛ حيث نجد كلمات مضافة ومعربة مثل: "بأوطانِهُم" بكسر النون βη αυθάνιὑμ  biautanihum  وكذلك "بمنحوتاتِهُم" bimenkoutetihum  βη μενχουτέτηὑμ

ونجد في البردية كذلك كلمات مضافة ولكن غير معربة كما في العبارة: فوقعتْ وسطْ عَسْكَرْهُمْ فَوْقْ خيامْهُمْ. (تسجيل الجلاد 1:04، وفي الكتاب ص84).

لذلك ليس من البعيد أن نفترض أن أمراً مشابها كان يحصل في لغة القرآن ولكن ليس في موضع الإضافة؛ أي أن لغة بردية دمشق تمثل مرحلة متطورة من فقد العربية للحركات الإعرابية؛ ففي لغة القرآن تظهر الحركات الإعرابية في الإضافة بشكل دائم وتظهر في غير الإضافة بشكل نادر، أما في لغة بردية دمشق فقد اختفت الحركات الإعرابية من موقع الإضافة بشكل غير كلي، وفي غير الإضافة اختفت بشكل كلي.

هذا التفسير يصلح أيضاً لفهم بعض الكلمات المنصوبة في القرآن والتي انتهت بالألف لكي تتشابه مع نهايات الآيات الأخرى، مثل "الظنونا"، "الرسولا"، "السبيلا" في سورة الأحزاب:

وإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

 هذه الكلمات مطابقة لما يحصل في الشعر من مد للحركة الإعرابية القصيرة للكلمة الأخيرة. وهذا معناه أن كلمات "الظنونا"، "الرسولا"، "السبيلا" نُطقت بالفتحة في آخرها ثم تم مد هذه الفتحة لتصبح ألفاً. بناءً على ما سبق من أن الحركات الإعرابية في غير الإضافة ليست غائبة بالمطلق من القرآن، فهذا معناه أن هذه الكلمات تم استخدام الإعراب فيها لكي يؤدي ذلك إلى مد الحركات الإعرابية ومن ثم التناغم مع الآيات الأخرى التي تنتهي بالألف.


آيات تُستخدم لإثبات وجود الإعراب الكامل

طرح بعض المستشرقين قديماً فكرة أن القرآن في لغته الأصلية قد خلا تماماً من جميع أشكال الإعراب، فرد المستشرق "فوك" عليهم بأن الآيات التالية تتطلب وجود الإعراب لكي يظهر معناها الصحيح:

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر/28)

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى (النساء/8)

أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (التوبة/3)

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ (البقرة/128)

 

يجيب فان بوتن على هذه الأمثلة بجوابين:

1- الحجازية القديمة لم تفقد كل الوجوه الإعرابية، كما أن الحركات الإعرابية القصيرة موجودة في الإضافة. إذاً "أولو القربى" هي معربة ولا يمكن لـ "أولو" أن تكون إلا فاعلاً، وهذا يوضح أن كلمة "القسمة" هي مفعول به. وكذلك كلمة "رسولُه" يظهر عليها الإعراب لأن الكلمة مضافة فيتبين أن الكلمة هي مرفوعة وبالتالي هي ليست معطوفة على "المشركين". الآية وفق الحجازية القديمة: أنَّ اللهْ بريّ من المشركينْ ورسولُهْ.

وكذلك كلمة "ربُّه" يظهر عليها الإعراب بسبب الإضافة، فتكون الآية وفق الحجازية القديمة: وإذ ابتلى إبراهيمْ ربُّهْ.

2- الجواب الثاني وهو جواب عام: في جميع هذه الأمثلة فإن غياب الإعراب لا يؤدي إلى غموض المعنى لأن السياق يوضح المعنى المقصود بشكل واضح؛ فلا يمكن لأحد أن يظن أن الله هو الذي يخشى العلماء في الآية: إنما يخشى الله من عباده العلماء. والكتابة العربية تخلو من تمثيل الحركات القصيرة ومع ذلك فإن الكتابات التي تمثل العربية الفصحى هي قادرة على إيصال المعنى على الرغم من أن القارئ لا يرى الحركات، وهذا دليل على أن السياق في غالب الحالات يكفي لمنع الالتباس في المعنى.

 

مثال آخر على آية يلتبس معناها دون الإعراب:

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (التوبة/31)

بدون إعراب يصبح المسيح شريكاً لله. علق فان بوتن على هذه الآية بالقول أن الإعراب يظهر على كلمة "ابن" لأنها مضافة، وبما أن "ابن" منصوبة فهذا يعني أن "المسيح" منصوبة أيضاً وبالتالي لا يحصل الالتباس في المعنى. 


إشكالية تعارض الحجازية القديمة مع وصف النحاة للغة قريش:

لم يصف النحاة الأوائل لغة قريش بأنها تخلو من الحركات الإعرابية القصيرة والتنوين، وأقرب ما قالوه في هذا الشأن يتعلق بشيء يسمونه بالاختلاس ومعناه أن الكلام السريع يؤدي إلى عدم وضوح نطق الحركات الإعرابية فتبدو كأنها مختلسة، ولكن الاختلاس نُسب إلى العرب دون تحديد لمنطقة معينة، كما أن الاختلاس لا يطابق ما نجده في البرديات الأموية لأن سرعة الكلام لا يمكن أن تؤدي إلى ما نجده في البرديات من ظواهر فلا يمكن للاختلاس أن يحول "معاويتُ" إلى "معاويهْ"، ولا يمكن له أن يثبت النون عند الإضافة بدلاً من حذفها كما رأينا في "شهرين ربيع"، وإملاء الرسائل هو ليس موضع الكلام السريع الذي يؤدي إلى الاختلاس.

إن الكتابات العربية-اليونانية والعربية-العبرية أثبتت شيئاً مهماً وهو أن النحاة الأوائل لم ينقلوا لنا الصورة الكاملة، وليس أدل على ذلك من غياب أي إشارة في كتب اللغة إلى نطق اسم الرسول الوارد في البرديات الأموية الرسمية؛ فقد ورد اسم الرسول في هذه البرديات أكثر من سبعين مرة ولم يُكتب في أي مرة بضم الميم الأولى muhammad

 ووفق أحمد الجلاد فإن صيغ الاسم الواردة باليونانية تحتمل أن تُنطق على ثلاثة أشكال: mahammad, mhammad, mahmed.

فكيف لا نجد في كتب اللغة أي ذكر لهذا النطق على الرغم من شيوعه في العصر الأموي؟ وكيف لا نجد أي ذكر لعدم نطق التاء المربوطة تاءً إلا في الإضافة وهي خاصية مشتركة بين البرديات اليونانية والعبرية؟ وكيف لا نجد أي أثر لنطق التنوين المنصوب ألفاً في كل حال وصلاً ووقفاً وهي خاصية نجدها في بردية دمشق وفي البرديات العبرية؟ وكيف لا نجد أي ذكر لإثبات نون المثنى والجمع عند الإضافة وهو ما تكرر ثلاث مرات في البرديات الأموية؟.

كل هذا يؤكد أن النحاة لم ينقلوا لنا الصورة الكاملة، بل أن القارئ لكتب النحاة يخيل إليه أن جميع العرب حتى القرن الرابع الهجري كانوا يتحدثون كما نراهم في الأعمال التلفزيونية التاريخية حيث ترى كل شخص يتحدث وكأنه سيبويه، ولكن الصورة التي نقلتها لنا الكتابات العربية المكتوبة بأحرف غير عربية وجدناها مختلفة تماماً عن الصورة التي تتشكل لدينا من قراءة كتب النحو. لذلك لا يصح رفض الحجازية القديمة بناء على أقوال النحاة، بل الصحيح هو لكي نعرف كيف كان أهل الحجاز يتكلمون فإن علينا أولاً دراسة رسم المصحف كوثيقة أثرية مستقلة، وعلينا ثانياً دراسة البرديات التي نجد فيها كتابات عربية كُتبت بخط غير عربي يكشف لنا ما لا يكشفه الخط العربي.

إن من أهم الدلائل التي تثبت صحة الحجازية القديمة أن الخصائص المستنتجة من الدراسة المستقلة لرسم المصحف تتطابق بشكل كبير مع خصائص البرديات اليونانية والعبرية:

التنوين غير مكتوب في رسم المصحف، وكذلك لا نجده مكتوباً في اليونانية ولا العبرية.

التاء المربوطة في رسم المصحف لم تُكتب تاءً إلا في موقع الإضافة، وفي اليونانية والعبرية لم تكتب تاء إلا في موضع الإضافة.

التنوين المنصوب كُتب بالألف في القرآن وصلاً ووقفاً، وهذا ما نجده في البرديات اليونانية والعبرية مثل كلمة "جدا" كُتبت فيها الألف دون النون وصلاً ووقفاً.

الهمزة المتطرفة في القرآن تُكتب واواً أو ياء عند الإضافة مثل "جزاؤهم" و "يومئذ" (يوم إذ) مما يعني حضور الحركة الإعرابية القصيرة في الإضافة، وفي البرديات لا تحضر الحركة الإعرابية القصيرة إلا في الإضافة.

في غير الإضافة فإن الهمزة المتطرفة في القرآن في غالب الأحيان لم تُكتب واواً ولا ياء مما يعني غياب الحركة الإعرابية، وهذا يطابق ما نجده في البرديات من الغياب التام للحركة الإعرابية في غير الإضافة.

رسم المصحف يؤكد تسهيل الهمز، وهذا ما نجده في البرديات اليونانية والعبرية.

كل هذه التوافقات لا يمكن أن تكون مصادفة.

 

كيف نشأت الفصحى

أختم هذه المقالة بهذه الترجمة المختصرة من كتاب الجلاد عن بردية دمشق ص69-71:

العربية الفصحى هي مجموع الخصائص التي سجلها النحاة الأوائل، ولا تمثل هذه الفصحى لهجة واحدة أو لهجة منطقة معينة؛ حيث يقدم النحاة أشكالاً مختلفة لأي خاصية نحوية أو صرفية، لذلك لا يمكن تصنيف الفصحى تحت أي لهجة؛ فمثلاً سبق أن قررنا أن كلمة "ذلك" هي خاصة بالحجازية القديمة، ولكن لا يمكن القول أن استخدام الفصحى لكلمة "ذلك" تعني أن الفصحى تمثل الحجازية القديمة؛ حيث تحوي الفصحى خيارات أخرى مثل "ذاك" (التي تنتمي للهجات أخرى). ويمكن قول نفس الشيء عن العديد من الخصائص النحوية؛ فالتنوع هو السمة الأساسية للفصحى. شيء واحد فقط لا تقدم فيه الفصحى أي تنوع وهو حضور الحركات الإعرابية القصيرة والتنوين، وهما خاصيتان فُقدتا في الحجازية القديمة قبل ظهور الفصحى بأمد بعيد.

إنني أقترح أن الحجازية القديمة التي يمثلها رسم المصحف هي اللغة الأدبية زمن دولة الخلافة والدولة الأموية، وكانت تُعتبر أيضاً اللهجة النخبوية الرفيعة ذات الشأن. ومن لهجة القرآن تطورت اللهجة التي نجدها في برديات القرن الهجري الأول، ومن لهجة هذه البرديات تطورت اللهجات العامية القديمة، كاللهجة العامية التي نجدها في بردية دمشق.

في زمن الدولة الأموية بدأت لهجة أخرى في اكتساب الرفعة والمكانة: لهجة القصائد. ويتفق النحاة على أن لغة القصيدة هي أقرب إلى لهجة بدو وسط الجزيرة وشرقها.

في دراسة رائعة لـ  P. Webb بين أن "مَعَد" هو الاسم الأبرز الذي يتم ذكره كهوية انتماء في الشعر الجاهلي. وبينما نجد الكتاب الإغريق والسريان يذكرون المعديين على أنهم مجموعات محاربة تمتطي الجمال في مناطق خارجة عن سيطرة الإمبراطورية، فإن نقش النمارة يبين بوضوح أن الاسم يعود إلى منطقة أو مجموعة من الناس، وهي حقيقة أكدتها دراسة رابين الشاملة للمصادر. بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، كان مركز المعديين هو مأسل الجمح في نجد. وتؤكد دراسة ويب أن القصائد القديمة كُتبت على لهجة معد، أو لهجات وسط الجزيرة بشكل عام. وهذا يعني أنه على خلاف الحجازية القديمة واللهجات العربية الشمالية، فإن العربية المعدّية لم تفقد التنوين ولا الحركات الإعرابية القصيرة.

إن نظام القصيدة ينتمي لثقافة أدبية مختلفة عن ثقافة الحجاز لأننا لا نجدها في القرآن. وعلى الرغم من أن القرآن يذكر الشعراء، فإنه لا يوجد أي شيء يشير إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا يكتبون الشعر على نفس طريقة القصائد الجاهلية. (من الهامش: من بين النقوش الشعرية التي تعود إلى ما قبل الإسلام لا يوجد أي نقش ينتمي لنظام القصيدة. وكون القرآن يقول للمخاطَبين به بأن الرسول ليس بشاعر فإن هذا يعني وجود تشابه بين القرآن وبين ما يعتبره المخاطَبون شعراً؛ فلو كان الشعر لديهم هو نفسه نظام القصيدة لما احتاج القرآن لأن يؤكد مراراً بأن الرسول ليس بشاعر لأن الفارق كبير بين القرآن والقصيدة.) بل يبدو أن نظام القصيدة قد نشأ في جنوب الجزيرة. لذلك من الوارد أن نظام القصيدة قد وصل إلى العرب حين توسعت دولة الحِمْيَريين في الجنوب لتضم مناطق وسط الجزيرة وهي أرض معد. لا يوجد أي دليل أثري على أن نظام القصيدة كان معروفاً لدى أهل الحجاز خاصة أن الحجاز لم تقع تحت سيطرة الحميريين إطلاقاً. وحين تبنى أهل الحجاز نظام القصيدة قاموا بنظم الشعر على لغة مَعَد مصدر هذا النظام.

وفي العصر الأموي كانت القصيدة أداة مهمة لتعزيز شرعية السلطة، خاصة الخليفة. وبسبب هذه المكانة فإن لغة القصيدة بدأت تحل محل الحجازية القديمة في اعتبارها اللغة المرموقة والمستخدمة في الخطابة والأدب، ولكن بقيت الحجازية القديمة اللغة الإدارية. في ظل هذا التغير كان من الطبيعي أن يُقرأ القرآن وفقاً للغة المرموقة الجديدة بدلاً من اللغة التي يمثلها رسم القرآن. وهكذا فإن القراءات القرآنية تولدت من التقاء العربية المعدّية الشعرية مع الحجازية القديمة القرآنية.

لقد وجد "ويب" رواية مدهشة في مصنف شعبة نجد فيها ربطاً صريحاً بين الإعراب ومعد: كتب عمر إلى أبي موسى: ((فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون.))

وهذه الرواية هي انعكاس لتحول اللغة الأدبية المرموقة من الحجازية القديمة إلى لغة القصيدة. ولذلك فإن القراءات القرآنية نشأت نتيجة قراءة القرآن على لهجة جديدة، وهذا لم يؤد فقط إلى إدخال الإعراب الكامل والتنوين، بل أدى أيضاً لإدخال الهمز وخصائص أجنبية أخرى (مثل كسر هاء الغائب في مثل "عليهٍم").



كتبه إدريس العربي في 2020 وراجعه وعدله في 2025